يشهد المغرب تحولا تاريخيا في مسار الإصلاح الاجتماعي بفضل إطلاق الورش الملكي لتعميم الحماية الاجتماعية، باعتباره أحد أعظم المشاريع الوطنية في عهد الملك محمد السادس. هذا المشروع لا يقتصر على توسيع الاستفادة من التأمين الصحي فحسب، بل يؤسس لرؤية متكاملة لبناء دولة العدالة الاجتماعية وضمان الكرامة الإنسانية لكل المواطنين دون تمييز أو استثناء.
ومنذ الإعلان عن هذا الورش في خطاب العرش سنة 2020، انخرطت مؤسسات الدولة في تنزيله العملي وفق مقاربة تدريجية وشمولية، هدفها الأساسي تعميم التغطية الصحية الأساسية على جميع المغاربة، بغض النظر عن وضعهم المهني أو الاجتماعي. وهو ما يمثل خطوة حاسمة نحو ترسيخ مبدأ “الصحة حق للجميع” الذي يشكل حجر الزاوية في أي مشروع تنموي مستدام.
توسيع مظلة التأمين الصحي: تغطية شاملة لمختلف الفئات
يشكل التأمين الإجباري عن المرض (AMO) العمود الفقري لهذا الورش، حيث تمت إعادة هيكلته وتوسيعه ليغطي جميع الفئات الاجتماعية. فبعد أن كان النظام مقتصراً على العمال الأجراء وأرباب العمل، بات يشمل اليوم فئات واسعة كانت خارج دائرة الحماية، مثل العمال غير الأجراء وأصحاب المهن الحرة. كما أُحدث نظام “AMO تضامن” للفئات غير القادرة على أداء الاشتراكات، مما يضمن استفادتها من نفس مستوى الخدمات الصحية دون تحمل أي أعباء مالية.
كما تم إﺣﺪاث ﻧﻈﺎم “AMO اﻟﺸﺎﻣﻞ” لفائدة اﻟﻔﺌﺔ اﻟﻘﺎدرة ﻋﻠﻰ أداء الاشتراكات رغم عدم مزاولتها لأي ﻧﺸﺎط ﻣﮭﻨﻲ، واﻟﺬي ﯾﻤﻜﻨﮭﺎ ﻣﻦ اﻟﻮﻟﻮج العادل للخدمات الصحية. وﺑﺬﻟﻚ أﺻﺒﺢ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺼﺤﻲ اﻟﻤﻐﺮﺑﻲ ﻧﻤﻮذﺟﺎً ﻣﺘﻜﺎﻣﻼً ﯾﺠﺴﺪ روح اﻟﺘﻀﺎﻣﻦ واﻟﺘﻜﺎﻓﻞ اﻟﻮطﻨﻲ، وﯾﺘﺮﺟﻢ ﻓﻌﻠﯿﺎً اﻟﺮؤﯾﺔ اﻟﻤﻠﻜﯿﺔ اﻟﺮاﻣﯿﺔ إﻟﻰ ﺗﺤﻘﯿﻖ اﻟﻌﺪاﻟﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﯿﺔ اﻟﺸﺎﻣﻠﺔ.
الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي: راﻓﻌﺔ ﻣﺮﻛﺰﯾﺔ لتنزيل الورش الملكي
يلعب الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي دوراً محورياً في إنجاح هذا المشروع، إذ أوكلت إليه مهمة تدبير أنظمة التأمين الصحي الجديدة بكل فئاتها. وقد انخرط الصندوق في عملية تحديث شاملة لأنظمته الإدارية والرقمية لضمان فعالية الأداء وسرعة معالجة الملفات.
فبفضل اعتماد الخدمات الرقمية ومنصات التسجيل الإلكترونية، أصبح بإمكان المواطن التسجيل في النظام وتتبع وضعيته وحقوقه دون الحاجة للتنقل، مما قلص العبء الزمني والإجرائي وساهم في تعزيز ثقة المواطنين بالمؤسسة.
ﻛﻤﺎ ﯾﻌﻤﻞ اﻟﺼﻨﺪوق ﻋﻠﻰ ﺗﺒﺴﯿﻂ إﺟﺮاءات اﻟﺘﻌﻮﯾﺾ وتعزيز ﻗﻨﻮات اﻟﺘﻮاﺻل، ﺑﮭﺪف ﺿﻤﺎن ﺗﻮاﺻﻞ داﺋﻢ وﺷﻔﺎف ﻣﻊ اﻟﻤﺴﺘﻔﯿﺪﯾﻦ. ھﺬه اﻟﻤﻘﺎرﺑﺔ اﻟﻤﻨﺪﻣﺠﺔ ﺟﻌﻠﺖ ﻣﻦ الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ﻓﺎﻋﻼً اﺟﺘﻤﺎﻋﯿﺎً أساسيا ﻓﻲ تنزيل اﻟﻮرش اﻟﻤﻠﻜﻲ ﻋﻠﻰ أرض اﻟﻮاﻗﻊ.
منظومة متكاملة لضمان العدالة الصحية
الرهان الأكبر لا يقتصر على إدراج المواطنين في لوائح المستفيدين، بل يتجاوز ذلك إلى ضمان ولوج فعلي إلى خدمات صحية ذات جودة. فنظام التأمين الإجباري على المرض يغطي الاستشارات الطبية والفحوصات المخبرية والتدخلات الجراحية والعلاجات الاستشفائية، إضافة إلى تعويضات الأدوية وفق لائحة محددة.
هذه المقاربة تهدف إلى تخفيف العبء المالي على الأسر، خصوصاً تلك التي كانت تتحمل سابقاً تكاليف علاج باهظة دون تغطية. وبهذا ينتقل المغرب من مرحلة الولوج المحدود إلى مرحلة الاستفادة العادلة من الخدمات الصحية.
الإصلاح المالي والإداري: ضمان الاستدامة والشفافية
يستلزم تعميم الحماية الاجتماعية إدارة دقيقة للنفقات. ولهذا تم اعتماد آليات تمويل مزدوجة تقوم على اشتراكات الأفراد القادرين على أدائها وعلى دعم الدولة للفئات المعوزة. كما تم إرساء نظام مراقبة ومواكبة يضمن الشفافية في صرف التعويضات، مع رقمنة المساطر لتبسيط الإجراءات وتحسين جودة الخدمات.
هذا الإصلاح المالي يواكبه تحديث إداري يعزز الحوكمة داخل المنظومة الوطنية، ويضمن التكامل بين مختلف المؤسسات الصحية والإدارية، سواء على المستوى المركزي أو الجهوي. والهدف هو بناء نموذج وطني مستدام يجعل من التضامن ركيزة اقتصادية واجتماعية في آن واحد.
الأثر الاجتماعي والاقتصادي للورش الملكي
تعميم الحماية الاجتماعية لا يمثل مجرد إصلاح صحي، بل هو مشروع وطني لإعادة توزيع الفرص وتحقيق العدالة الاقتصادية. فهو يساهم في رفع جودة الحياة، ويعزز الاستقرار الاجتماعي من خلال حماية الأسر من مخاطر الفقر الناتج عن المرض. كما يشكل رافعة للتنمية الاقتصادية عبر زيادة الإنتاجية وتحسين ظروف العمل وتعزيز الثقة بين المواطن والدولة.
إضافة إلى ذلك، فإن تقوية القطاع الصحي ودمج مختلف الفئات في منظومة موحدة من شأنه خلق فرص استثمار جديدة في مجالات الصناعات الدوائية، والمعدات الطبية، والتكنولوجيا الصحية، مما يدعم الاقتصاد الوطني ويعزز السيادة الصحية للمملكة.
نحو مغرب أكثر إنصافاً وتوازناً
الورش الملكي لتعميم الحماية الاجتماعية هو أكثر من مجرد مشروع إصلاحي، إنه تحول مجتمعي شامل يؤسس لمرحلة جديدة في تاريخ المغرب. مرحلة قوامها العدالة والتضامن، وهدفها الإنسان باعتباره محور التنمية وغايتها النهائية.
ومع التعبئة الدائمة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وباقي الفاعلين المؤسساتيين، يسير المغرب بثبات نحو تحقيق هدف التغطية الصحية الشاملة، ليصبح الولوج إلى العلاج حقاً مكفولا لكل مواطن ومواطنة بغض النظر عن وضعه الاجتماعي والاقتصادي.
وبهذا المسار الإصلاحي المتكامل، يسير المغرب بخطى ثابتة نحو بناء نموذج تنموي جديد يضع كرامة الإنسان في قلب المشروع الوطني، ويرسخ دعائم مغرب متضامن، عادل، ومنصف لكل أبنائه.