في كل زاوية من زوايا الحياة الحديثة، هناك إصبع ينزلق على شاشة، وعيون تتابع محتوى لا ينتهي… فيديو وراء آخر، منشور يليه منشور، ضحكة عابرة، حزن مؤقت ثم فراغ لا يُفسَّر. هل سبق لك أن أمسكت هاتفك لتتصفح شيئًا محددًا، ثم وجدت نفسك بعد ساعة لا تتذكر أصلًا لماذا فتحته؟تلك اللحظة العابرة من التيه الرقمي ليست مجرد عادة سيئة، بل تجسيد لظاهرة أعمق وأكثر خطورة تُعرف باسم “Brain Rot” أو “تعفن الدماغ”.
هذا المصطلح، الذي اختير كـ”كلمة العام” لسنة 2024 من طرف دار نشر جامعة أكسفورد، ليس فقط تعبيرًا ساخرًا من عصرنا المتسارع، بل مرآة لواقع بات يقلق المتخصصين في الصحة النفسية… حتى هنا في المغرب.
ما هي ظاهرة “Brain Rot”؟

عرّفت الأخصائية النفسية المغربية إيمان قنديلي، خلال حوارها مع THE PRESS، الظاهرة بأنها حالة تدهور ذهني ناجمة عن الاستهلاك المفرط والمتكرر للمحتويات الرقمية السطحية (التي تُعدّ تافهة أو غير صعبة)، خاصة تلك القصيرة والمشتتة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي كمقاطع “التيك توك” أو “انستغرام” (Reels)…فإنه إذن ذلك الشعور بالاستنزاف العقلي أو البلادة الذهنية الذي يحدث بعد ساعات من تصفُّح وسائل التواصل الاجتماعي، أو مشاهدة البرامج، أو الانخراط في مواد لا تحفز عقلك. وأشارت الأخصائية النفسية إلى أن الأمر لا يتعلق فقط بإرهاق ذهني مؤقت، بل يصل إلى ضعف التركيز، تراجع الإبداع، والميل إلى الكسل الفكري، وهي تأثيرات باتت تطال نسبة واسعة من الشباب المغاربة.
واللافت في الأمر أن أصل المصطلح ليس وليد اللحظة، بل يعود إلى القرن التاسع عشر، حيث استخدمه الكاتب الأمريكي هنري ديفيد ثورو في كتابه Walden عام 1854، حين انتقد تفضيل المجتمع للأفكار السطحية على حساب التفكير العميق. واليوم، يُعاد توظيف المفهوم ذاته ولكن في سياق الثورة الرقمية التي نعيشها.
هل الظاهرة منتشرة في المغرب؟

بحسب قنديلي، فإن الظاهرة منتشرة في المغرب حتى وإن لم تُعرف باسم “Brain Rot”. وتوضح الأخصائية أن ممارستها اليومية داخل العيادة النفسية كشفت عن معاناة العديد من الشباب من فقدان الشغف، القلق المزمن، وصعوبات في التركيز،مما يؤكد أن التكنولوجيا أضحت، بالنسبة للكثيرين، ملاذًا وهميًا يُغذي مشاعر العزلة والإرهاق الذهني، ما يجعلها شكلًا مقنعًا من أشكال الإدمان.
وترجع الأخصائية استفحال هذه الظاهرة في المغرب إلى مجموعة من العوامل المتشابكة؛ أولها، نقص واضح في الوعي داخل الأسر المغربية حول المخاطر المرتبطة بالاستهلاك المفرط للمحتوى الرقمي السطحي، وثانيًا، غياب الرقابة على استخدام الأطفال والمراهقين للأجهزة الذكية يفتح الباب أمام فوضى في استهلاك المحتوى. وأخيرًا، تفتقر المنظومة التعليمية لبرامج فعالة تعزز الاستخدام المسؤول للتكنولوجيا، ما يزيد من هشاشة الأجيال أمام هذا الواقع الجديد.
ما الذي نخسره بفعل “Brain Rot”؟

وتُبيّن قنديلي في تصريحها أن الآثار السلبية لـ”Brain Rot” تمتد إلى جوانب متعددة من الحياة، سواء على المستوى النفسي أو السلوكي أو حتى المجتمعي.فعلى المستوى النفسي، يعاني الكثير من الشباب من ضعف واضح في التركيز، مما يؤثر على قدراتهم الدراسية والعملية. كما أن المقارنة المستمرة مع الصور والمظاهر التي تروّج لها وسائل التواصل تولّد شعورًا دائمًا بعدم الكفاية، وتؤدي إلى تراجع تقدير الذات. في حالات أكثر تقدمًا، يظهر ما يُعرف بالاكتئاب الرقمي، وهو شعور بالفراغ واللامعنى ناتج عن استهلاك محتوى بلا قيمة تُذكر.
وسلوكيًا، يتحول الاستخدام العادي للتكنولوجيا إلى إدمان صامت، حيث يقضي الشباب ساعات طويلة يوميًا أمام الشاشات، على حساب النوم والعلاقات الاجتماعية الواقعية. هذا السلوك يعمّق من مظاهر العزلة والانسحاب الاجتماعي.
أما على المستوى المجتمعي، فتشير قنديلي إلى التراجع التعليمي كأحد أبرز تجليات الظاهرة، إذ يفقد التلاميذ والطلبة قدرتهم على التعلّم العميق نتيجة تعودهم على المحتويات السريعة والمجزأة، كما أن انتشار الأخبار الزائفة يُعد نتيجة مباشرة لضعف التفكير النقدي، ما يشكل تهديدًا على التماسك المجتمعي والثقافي.
كيف نواجه هذه الظاهرة؟
ترى الأخصائية إيمان أن الحل لا يكمن في التخويف أو الرفض المطلق للتكنولوجيا، بل في بناء علاقة صحية ومتوازنة معها، تقوم على الوعي والتنظيم.

وتدعو قنديلي إلى توعية الأسر المغربية بضرورة وضع قواعد واضحة لاستخدام الأجهزة داخل المنزل، مثل تحديد أوقات محددة للاستعمال، ومنعها أثناء الوجبات أو قبل النوم. كما توصي بإدماج التربية الرقمية ضمن المناهج التعليمية، مع تعليم التلاميذ كيفية التحقق من المعلومات، واختيار المحتويات المفيدة، وفهم آليات الخوارزميات التي تُغذي الإدمان الرقمي.
إلى جانب ذلك، توصي بتشجيع الشباب على الانخراط في أنشطة واقعية بديلة، مثل الرياضة، الفنون، والمبادرات الثقافية، التي تحفّزهم على التفاعل الإنساني الحقيقي. كما تشدد على أهمية توفير دعم نفسي مخصص لفئة المراهقين، لمساعدتهم في تجاوز تبعات الإدمان الرقمي.
وأخيرًا، تؤكد قنديلي على ضرورة تحميل منصات التواصل الاجتماعي جزءًا من المسؤولية، من خلال تعديل خوارزمياتها لعرض محتويات تعليمية ومثرية، وتشجيع المؤثرين على نشر رسائل إيجابية تروج لممارسات صحية في التفاعل الرقمي.
توازن ضروري في زمن السرعة
تختم الأخصائية النفسية حديثها برسالة تحذيرية لكنها مشبعة بالأمل، قائلة:
“Brain Rot ليس مجرد مصطلح رنان، بل تحذير من مستقبل رقمي هش، أما التكنولوجيا فهي أداة رائعة إذا استخدمناها بعقل، لكنها تتحول إلى سلاح صامت إذا تُركت دون وعي أو توازن.”
فبين خوارزميات مصممة لجذب الانتباه، وشاشات لا تعرف التوقف، تبدو ظاهرة “Brain Rot” كناقوس خطر يقرع أذهاننا جميعًا. فهل نملك الجرأة لننظر في مرآة الواقع الرقمي؟ أم أننا اخترنا أن نعيش في عالم من التمرير الأبدي… على حساب عقولنا؟