الدكتور أحمد أزوغ: أستاذ باحث، مدير ماستر للذكاء الاصطناعي بباريس
إذا كنا قد وضعنا في المقالات السابقة تصوّراً للمغرب الذي نريده وقدمنا في الميثاق نموذجًا للالتزام الشخصي بالتخلق، فقد حان الوقت لننتقل من التمني إلى التنفيذ، ومن اقتناع بالسلوك إلى مؤسسات تُرسّخ هذا السلوك وتساعد على نشره على أرض الواقع.
وبينما يستعد المغرب، بكل طاقاته، لاحتضان كأس العالم 2030، وما يتطلبه ذلك من تسريع وتيرة الإصلاحات البنيوية، وتحسين صورة البلد أمام العالم، يقود في الوقت نفسه ملحمة دبلوماسية ناجحة، دفاعًا عن قضيته الوطنية الأولى، واسترجاعًا لحقه التاريخي في وحدته الترابية آملا إنهاء هذا النزاع المفتعل عما قريب. هاتان الديناميتان، الرياضية والدبلوماسية، تكشفان عن طموح مغربي نبيل في أن يكون في مستوى اللحظة، لا فقط بتنمية البنيات، بل كذلك بتخليق الحياة العامة. فإذا كانت الطرق تُعبَّد، والموانئ تُطوّر، والمدن تُعاد هيكلتها، فإن الإنسان المغربي بسلوكه وممارساته هو من سيمنح لهذه المنجزات معناها الأخلاقي وهويتها الحضارية.
فكما كان طي صفحة الإبادة الجماعية حافزا قويا لرواندا في مشروعها الوطني، فإن حافز المغرب القريب هو أن يكون في مستوى هذين التحديين، وأن يقدم صورة مشرفة تعزز صورة الوطن، وأن يرتقي بوطنه تمهيدا للطي الشامل للنزاع الترابي المفتعل. تُسائلنا إذن هاته اللحظة الاستثنائية: كيف يكون الإنسان المغربي في مستوى الحدث، وكيف يرافق هذا الحراك التنموي والديبلوماسي بنهضة أخلاقية مؤسسية؟ وكيف نُفعّل إرادة التخليق في السياسات العمومية؟
وسنخصّص هذا المقال لأهم أربع مؤسسات معنية بتنزيل التخلق: الأمن ، الدين، المدرسة، والسياسية، مقدمين في كل منها تشخيصاً ومقترحات عملية للتطوير.
1. الأمن: من رد الفعل إلى حماية القرب
لابد للنهضة السلوكية من هزة أولى تترك الأثر وتظهر ملامح المرحلة الجديدة، وليس أفضل من أن تكون تلك الهزة صورة أمن حازم قريب مستتب تردع المجرمين المستهترين بأمن المواطنين.
فإذا كان المغرب، بفضل قدرته الاستباقية ونظامه الأمني الصارم، قد بقي نسبيا في منأى عن الجريمة المنظمة والعصابات العابرة للحدود مقارنة ببعض الدول الأوروبية، فإن المواطن العادي لا يزال يعاني من آفات يومية أكثر بساطة، ولكن أكثر إزعاجًا: النشل، والاعتداءات في الأحياء، والتهديد المتكرر في الفضاء العام، وهي ممارسات تؤثر على الإحساس بالأمان وتشيع مناخًا من القلق الدائم.
إن تجربة “شرطة القرب” التي عُرفت شعبيًا بـ”كرواتيا”، والتي تم إطلاقها بداية الألفية، شكّلت نموذجًا محمودا في التفاعل مع حاجيات الأحياء، عبر حضور ميداني دائم، وسرعة في الاستجابة، وانخراط مباشر في حياة المواطنين. لكن وبسبب تحديات تنظيمية أو لوجستية، تم للأسف سحب هذه التجربة تدريجياً بعد بضع سنوات، دون توفير بدائل تُقنع المواطن بوجود أمن يومي حقيقي داخل محيطه، وما زالت تتوالى مطالب المواطنين بإعادة هاته التجربة إلى الوجود. ولئن كانت دوريات “حذر” المنتشرة في مراكز المدن تترك انطباعاً جيداً في المحاور الكبرى، فإن التخلق في الفضاء العام يحتاج إلى أمن يومي قوي مستتب يردع المستهترين.
مقترحات للتنزيل المؤسسي:
● إعادة إحياء شرطة القرب بحضور ميداني دائم في الأحياء الشعبية بصيغة حديثة تلائم التحديات الحالية.
● توسيع نطاق كاميرات المراقبة بالفضاءات العامة مع احترام الخصوصية.
● تنظيم دورات تواصلية مشتركة بين الأمن والمجتمع المدني للوقوف على مكامن الخلل وتعزيز الأمن.
● تخصيص وحدات شرطة تربوية تزور المدارس وتقدم عروضًا تحسيسية حول الأمن والسلوك.
● تفعيل آليات الإبلاغ الآني والرصد الرقمي لتلقي بلاغات المواطنين وتتبعها للتدخل المستعجل.
2. الدين: من المنبر إلى تهذيب السلوك
يُعدّ الدين أحد أهم الروافد المؤثرة في السلوك المغربي، إذ تَميز هذا البلد تاريخيًا بتدين وسطي سَمح، قائم على المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني، وهي مرجعيات ساهمت في بناء شخصية مغربية متزنة في علاقتها بالخالق والناس. غير أن فعالية هذا الرصيد الأخلاقي تبقى رهينة بطريقة تبليغه، لا بطبيعة مضامينه فقط.
في هذا الإطار، شكّلت خطة “تسديد التبليغ” التي اعتمدت توحيد خطبة الجمعة في المساجد، تجربة جديدة تهدف إلى توجيه الخطاب الديني نحو القيم والمبادئ العليا، وتفادي الانزلاقات الشعبوية أو التوظيف السياسي. غير أن هذا التوحيد، رغم نبل مقصده، قد أفرغ الخطيب من شخصيته، وحوّل المنبر إلى منصة تلقين، إذ غدا بعض الخطباء مجرّد قرّاء، وتحوّل المصلون إلى تلاميذ لا يجدون في الخطبة سوى تكرار محفوظ، يفتقر إلى حرارة الواقع وخصوصية السياق.
وإذا كانت الزوايا الصوفية تشكّل على مدى قرون ركيزة في نشر قيم الإيمان والإخلاص والتجرد ومقاومة المستعمر، فقد بات أغلبها اليوم في شبه عزلة عن الفضاء العمومي، إما بسبب طغيان الطقوس على الجوهر، أو لانتشار ممارسات منحرفة عند بعضها، أو لابتعادها عن قضايا المجتمع وانحسارها في حلق ذكر بين المريدين. وهو ما يدعوها إلى تجديد أدوارها وأن تعمل كرافعة شعبية للتخليق وهي المعنية أساسا بتزكية النفوس.
مقترحات للتنزيل:
● تحيين خطة تسديد التبليغ بما يمنح للخطيب مجال الإبداع و التأويل والتفاعل مع محيطه المحلي تفاعلا مع واقع الحي والمدينة.
● إدراج التربية الخلقية ضمن تكوين الأئمة، وتمكينهم من أدوات التواصل المؤثر مع الشباب.
● تجديد دور الزوايا الصوفية إلى مبادرات تتفاعل مع مؤسسات المجتمع في مشاريع ملموسة تُسهم في التربية الخلقية.
● تعزيز التواجد الرقمي للتربية الدينية الخلقية الرسمية بشكل تطبيقي أنيق يثير اهتمام الشباب.
● إنشاء وتعزيز قنوات الاتصال بين المسجد والمدرسة بما يذكر التلاميذ بأهمية الأخلاق.
3. المدرسة: من التلقين إلى التربية
إذا كانت المدرسة هي الفضاء الطبيعي لغرس المعرفة، فإنها أيضًا البوابة الأولى لبناء المواطن الخلوق. فالتلميذ لا يخرج من القسم بكمية معلومات فقط، بل يتشرّب نمطًا من التعامل، وشكلًا من الانضباط، ورؤيةً عن العالم. لكن الإشكال الذي يواجهنا اليوم هو أن المؤسسة التعليمية تُرهق بالأعباء التقنية والإدارية، وتُهمل التربية الأخلاقية من أولوياتها، أو تحصرها في مواد هامشية وسلوكات مُعاقَب عليها لا مُشجَّع عليها.
لقد أبانت بعض النماذج الدولية، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، عن نجاعة الدمج بين التفوق الأكاديمي والصرامة السلوكية، حيث تُغرس القيم من الروض حتى الجامعة، ليس من خلال العقاب، بل عبر أنشطة يومية وتمارين جماعية ومسؤوليات ذات طابع قيمي. ويُمكننا أن نستلهم منها الكثير دون أن نُفقد مدرستنا هويتها.
إن ما نحتاجه ليس فقط دروسًا تطبيقية في الأخلاق، بل أن تتحول المدرسة نفسها إلى فضاء أخلاقي حيّ، يَسود فيه الاحترام، والإنصاف، والمسؤولية، وأن يكون المعلم قدوة، والإدارة نموذجًا، والمحتوى الدراسي حافزًا على التساؤل والتفاعل لا فقط الحفظ والتكرار. فبناء تلميذ قادر على التمييز بين الصواب والخطأ، وعلى ضبط سلوكه، واحترام غيره، هو في حد ذاته غاية تربوية سامية.
مقترحات للتنزيل:
● إدراج التربية الأخلاقية ضمن مشروع المؤسسة، كمحور أساسي يُقيَّم عليه أداء الطاقم الإداري والبيداغوجي.
● تدريب المعلمين على مهارات التنشئة الخلقية، وأساليب الإنصات والتحفيز وضبط القسم دون عنف.
● تطوير أنشطة مدرسية خارجية ذات بعد قيمي لخدمة المجتمع كحملات نظافة أو زيارة دور العجزة أو دور الأيتام.
● تطوير نقطة السلوك من مجرد نقطة رمزية إلى مشروع أخلاقي يكلف التلميذ بتطويره على قدر استطاعته خدمة للمجتمع.
● فتح المدرسة على الأسرة والمجتمع، وتفعيل دور جمعيات الآباء وجعلها إلزامية لتأطير سلوك الأطفال.
4. السياسية: من الوعود إلى الالتزام
لا يمكن للأخلاق أن تتجذر في المجتمع ما لم ترتقِ بها السياسة أولاً، لأن السلوك العام يتأثر، بشكل مباشر أو غير مباشر، بما يُروّج في الفضاء السياسي من قدوة، وخطاب، وممارسات. فإذا كانت النخب السياسية تمارس التلاعب، أو تصدر خطابًا شعبويًا، أو تتعامل مع المسؤولية كامتياز لا كتكليف، فإنها بذلك تُضعف كل مجهود قيمي، وتُربك ثقة المواطن في الإصلاح.
وعلى العكس، أظهرت التجارب الإسكندنافية أن بناء الثقة الأخلاقية يبدأ من رأس الهرم السياسي، حيث الشفافية المالية، وخطاب الصدق، ووضوح البرامج، وحسّ المساءلة الذاتية أمام المواطنين، صارت مكوّنًا أساسيًا في شرعية الفاعل السياسي، وجزءًا من ثقافة الحكم نفسها.
في المغرب، لا تزال العلاقة بين الأخلاق والسياسة معقدة. فالمواطن، وهو يرى بعض النخب تستغل المنصب للاغتناء، أو تُغيّب الخطاب القيمي في البرلمان والإعلام، يشعر بالنفور من المشاركة، ويُغلق الباب أمام كل أمل في التغيير السياسي عبر الوسائل المؤسسية. لذلك، فإن تخليق السياسة ليس مجرد مطلب أخلاقي، بل ضرورة ديمقراطية واستراتيجية إنمائية.
ثم إن تخليق العمل السياسي لا يكتمل ما لم يُفتح المجال للمواطنين والمجتمع المدني للمشاركة في صياغة القوانين والسياسات العامة. فحين يشعر المواطن أنه شريك في صناعة القرار، لا مجرد متلقٍ له، يُقبل على احترامه والالتزام به بوعي ومسؤولية. ولا نقصد هنا الاستشارة المناسباتية، بل آليات حقيقية للحوار والتداول المجتمعي، تُدمج فيها الجمعيات، والنقابات، والفاعلون المحليون، لضمان أن تنبع القوانين من الواقع وتُجسّد الإرادة الجماعية، فتُصبح أكثر فهمًا، وأقوى تأثيرًا، وأعمق أثرًا أخلاقيًا.
مقترحات للتنزيل:
● إلزام الأحزاب بتقارير شفافية سنوية تبيّن مواردها المالية، وطريقة انتقاء مرشحيها، وأوجه صرف الدعم العمومي.
● تفعيل مدوّنات سلوك للمنتخبين تُلزمهم بميثاق أخلاقي، وربط الترشّح للمسؤوليات المحلية والبرلمانية بنقاء السجل العدلي للمرشح.
● إطلاق منصات تفاعلية إلزامية بين المنتخبين والمواطنين تُلزم المسؤول بالإنصات وإعطاء الحصيلة والتفاعل المستمر مع ناخبيه.
● فرض آليات إلزامية للاستشارة المسبقة مع الجمعيات المهنية والمجتمع المدني في السياسات ذات الصلة بمجالهم (التعليم، البيئة، الشباب…).
● تنظيم مناظرات جهوية مفتوحة قبل وضع السياسات العمومية الكبرى، تُمكّن من رصد توقعات وانتظارات السكان وتسجيلها رسميًا.
خاتمة
إن مغرب الأخلاق الذي نطمح إليه لا يُبنى فقط على النوايا الحسنة ولا على القوانين الصارمة، بل على إرادة مؤسسية واعية تُعطي المثال، وتواكب السلوك. فكما نجحت الدولة في تعبئة الإمكانيات لإنجاح مشاريع البنيات التحتية الكبرى، وأثبتت قدرتها على التحديث السريع بمناسبة التحديات الدولية مثل مونديال 2030، فإنها مسؤولة وقادرة بنفس الإرادة على أن تجعل من التخلق مشروعًا وطنيًا شاملًا، يُفعّل في كل القطاعات: من المدرسة إلى المحكمة، من المسجد إلى الشارع، ومن الإعلام إلى الإدارة.
هذا التفعيل لا يحتاج إلى خطط إدارية باردة فقط، بل إلى شجاعة رمزية، واستراتيجيات ملموسة، ومسؤولين قدوة. كما يحتاج إلى قياس للأثر السلوكي في كل قطاع، ومرصد وطني يتابع المؤشرات الأخلاقية بقدر ما نتابع مؤشرات النمو الاقتصادي.
في المقال المقبل، ننتقل إلى الجانب الشعبي من التخليق، لنتأمل كيف يمكن للمجتمع أن يتحوّل من متلقٍّ للأوامر الأخلاقية إلى فاعل جماعي يُطلق المبادرات، ويُنشئ القدوات، ويُعيد تفعيل الحيّ والمدرسة والأسرة والإعلام لإصلاح ينبع من المجتمع.