مع إعلان وفاة البابا فرنسيس، يدخل الفاتيكان مرحلة دقيقة تُعرف بـ”الكرسي الشاغر”، وهي فترة انتقالية تُدار خلالها شؤون الكنيسة الكاثوليكية تمهيداً لاختيار بابا جديد. هذا الانتقال لا يتم بشكل تلقائي أو عشوائي، بل عبر إجراءات دقيقة تنظمها تقاليد عمرها قرون ودستور رسولي حديث، ينتهي بعقد “الكونكلاف”; الاجتماع المغلق الذي يُعقد داخل كنيسة السيستينا، ويضم الكرادلة الذين تقل أعمارهم عن 80 عاماً فقط، وعددهم حالياً 117 كاردينالاً يمثلون مختلف القارات.

وتبدأ العملية بقرار الكاردينال “الكاميرلينغو” الذي يتأكد رسمياً من وفاة البابا، ويقوم بختم شقته البابوية وإبلاغ الكرادلة حول العالم، داعياً إياهم إلى الاجتماع في الفاتيكان. خلال هذه الفترة، لا يمتلك مجمع الكرادلة أي سلطة تشريعية أو دينية، بل يقتصر دوره على التحضير للانتخابات وإدارة الأمور الإدارية تحت إشراف الكاميرلينغو، وفقاً لما نص عليه البابا “يوحنا بولس الثاني” في الدستور الرسولي “Universi Dominici Gregis”. وتبدأ أعمال الكونكلاف بين اليوم الخامس عشر والعشرين بعد الوفاة، في أجواء من التأمل والصلاة وطلب الهداية الإلهية.


وفي داخل كنيسة السيستينا، حيث تُغلق الأبواب ويحظر على المشاركين التواصل مع العالم الخارجي، تُجرى أربع جولات اقتراع يومياً: اثنتان في الصباح واثنتان بعد الظهر. تُوزّع بطاقات ورقية على كل كاردينال ليكتب اسم المرشح الذي يراه مناسباً، شرط ألا يكون هو نفسه. تُطوى البطاقات وتُوضع في كأس فضي على المذبح، ثم تُفرز الأصوات. وإذا حصل أحد المرشحين على ثلثي الأصوات، يُعلَن بابا جديد للكنيسة. بعد كل جولة تصويت، تُحرَق الأوراق: فإن خرج الدخان أسود، فذلك يعني أن التصويت لم يُحسم، أما إذا كان أبيض، فالعالم كله يفهم أن “لدينا بابا” جديد.

وما إن يتم انتخاب البابا ويقبل المنصب، حتى يختار اسماً بابوياً جديداً في إشارة رمزية لهويته الروحية الجديدة ويُقدَّم للعالم من شرفة كاتدرائية القديس بطرس في ساحة الفاتيكان. يبدأ بعدها في ممارسة مهامه التي لا تقتصر على إدارة مدينة الفاتيكان الصغيرة، بل تمتد لتشمل العالم الكاثوليكي برمّته. فالبابا هو الحبر الأعظم للكنيسة، والمفسّر الأعلى للعقيدة الكاثوليكية، وله سلطة روحية وقانونية على أكثر من مليار مؤمن موزعين على القارات الخمس.
من أبرز صلاحيات البابا، التعليم العقائدي، حيث يصدر الوثائق الرسائل البابوية والمواعظ التي تشرح وتوجه العقيدة المسيحية. كما يتمتع بسلطة رعوية مباشرة على الأبرشيات في العالم، وله الكلمة الفصل في تعيين الأساقفة. وبموجب عقيدة “العصمة البابوية” التي أقرّها المجمع الفاتيكاني الأول عام 1870، فإن البابا يُعد معصوماً من الخطأ حين يُعلن عقيدة تتعلق بالإيمان أو الأخلاق من “على الكرسي الرسولي”. بالإضافة إلى ذلك، يستطيع البابا الدعوة لعقد المجامع المسكونية، التي تضم أساقفة من أنحاء العالم لمعالجة قضايا كبرى تواجه الكنيسة.

ولا تنحصر مهام البابا في الشأن الديني فقط، بل تشمل أدواراً دبلوماسية واجتماعية وثقافية. فهو يتدخل في أزمات عالمية، ويشارك في الحوار بين الأديان، ويزور دولاً عديدة بهدف تعزيز السلم والتفاهم، وغالباً ما تُعطى تصريحاته أهمية كبرى في الملفات الحساسة مثل الفقر، العدالة الاجتماعية، التغير المناخي، وحقوق الإنسان. بهذه الصلاحيات الواسعة والرمزية، يُعد منصب البابا واحداً من أكثر المناصب تأثيراً في العالم، يجمع بين القيادة الروحية، والدبلوماسية الأخلاقية، والرمزية التاريخية العريقة.