هواجس مهاجر (2/2)

بقلم هيثم الكتمور: مهندس مغربي مقيم بفرنسا، اختصاصي في الجودة الصناعية، ومهتم بمواضيع الهجرة

بعد مقال أول تحدثت فيه عن الهجرة محاولا الإجابة عن أسباب الرحيل و عن أسباب العودة، على كثرة هذه و تلك و على مدى صعوبة فهم القرار أيا كان, لارتباطه بعوامل عدة، سأحاول في مقال اليوم الإجابة على سؤال أسباب عدم العودة، و محاولة التفكير في الحلول التي تجعل المهاجر يتخذ القرار الملائم سواء كان بالمكوث بالمهجر أو بالعودة للوطن الأم.

لماذا لا نعود؟

إذا كانت أسباب العودة في عمومها واضحة و مرتبطة بوقائع ثابتة و تغيرات موضوعية فرغم كل هذه الأسباب، يختار عدد ليس قليلا من المهاجرين البقاء في المهجر.

سنحاول هنا إيجاد بعض الأسباب وراء ذلك.

أولها بلا منازع هو تأقلم المهاجر، مع الوقت، مع محيطه الجديد. مع مرور الزمن يصبح الإنسان أقل قابلية للتغيير و يرى في التغيير مجازفة و مغامرة قد تُفقده النقاط الإيجابية أو بعضها على الأقل دون ضمان كسب النقاط الإيجابية التي يتوقعها في تغيير بلد سكناه و استقراره.

هذا الإحساس يكبر مع الوقت و يزداد ثِقله مع تكوين أسرة و التمكن من عمل قار في ظروف مريحة، و تَمَدْرُس أبنائه و غيرها من تجليات الاستقرار التي تقاوم فكرة التخلي عن ذلك كلِّه لبناء استقرار جديد في مكان آخر لا يضمن نجاحه إلا الله، رغم التفاؤل و عوامل نجاح العودة المحتملة.

ثانيها، سن الأطفال و استقرارهم، فالمهاجر يرى بعد حين أن أبناءه وُلدوا و ترعرعوا بالمهجر و تأثروا بلغة المهجر التي أصبحت في الغالب لغتهم الأولى و في بعض الأحيان لغتهم الوحيدة. تأقلموا عبر ذلك مع منظومة تعليمية و بنية مجتمعية مختلفة. قد يرى أن كل ذلك يجعل تأقلمهم مع بلدهم الأم صعبا و أحيانا مستحيلا أو هكذا يراه.

يرى المهاجر في إرادة دائمة لتأجيل القرار أن سن الأطفال غير مناسب للعودة، بعدها يصبح سن المراهقة و بعدها سنة الباكالوريا و بعدها الدراسة الجامعية ببلد المهجر…فتتوالى الحجج و النظريات لتأجيل قرار لوقت أفضل ينتهي بعدم المجيء أو بالتأجيل حتى سن التقاعد..

ثالث سبب في قرار عدم العودة هو نجاح الاندماج في بلد المهجر حتى أن المهاجر لا يرى نفسه مهاجرا و هذا إحساس مختلف بحسب بلد الإقامة و طول الإقامة.

هذا الإحساس لا ينفي إحساس الانتماء للبلد الأصل فالمغاربة مثلا مهما كان مستوى اندماجهم لا يعتبرون مواطنَة بلد الاستقبال مغيِّرة لانتمائهم بل مكملة له. هذا الاندماج أهم كلما تحسن المستوى الاجتماعي أو المهني للمهاجر و حيثما تكلمنا عن أبناء المهاجرين و أحفادهم…

هذا العامل محدود نسبيا بسبب مشاكل معاداة المهاجرين و معاداة الإسلام بعدد من بلدان المهجر التي لا تساهم بالإحساس بالمواطنَة الحقة ببلدان المهجر رغم حصول عدد مهم من المهاجرين على الجنسية.

رابع هذه الأسباب هو التحول الثقافي و القيَمي بدوَل الأصل. فيحدث كثيرا أن يحس المهاجر بفتور العلاقات الإنسانية ببلد الأصل و بضعف العديد من تجلياتها فيرى فارقا بين البلد الذي هاجره منذ سنين و البلد الذي يزوره اليوم…نرى ذلك في العلاقة بين أفراد العائلة و حِدّة الزيارات، نرى ذلك في عدد الزيارات يوم العيد، و نرى ذلك في تنظيم العطل المشتركة بين العائلة و الأصدقاء، و نرى ذلك في الخلافات العائلية و في قطع صلة الرحم في بعض الحالات، و نرى ذلك في الكثير من الأمثلة الأخرى التي تؤكد تغييرا في قيَم مجتمعات الأصل، كالمغرب مثلا، نحو قيَم مجتمعات فردانية و إن كان هذا التحول مختلفا بين المدينة و بين البادية من جهة، و بين المدن الصغرى و الكبرى و حتى بين العائلات و الأحياء من جهة أخرى، و لكن التوجه العام واحد نحو مزيد من الفردانية في تنظيم مجتماعتنا. و رغم أن هذا التحول ملموس فهذا لا يمنع بأن مستوى هذا التحول بعيد جدا، لحد الساعة، عما نراه في المجتمعات الغربية.

كل هذا يخلق فجوة هامة بين البلد الذي تركه المهاجر و البلد الدي يريد ربما العودة إليه.

خامس الأسباب أراه في عولمة عالمنا اليوم التي فيها أيضا الإيجابي، فالمكالمات الفورية و المجانية سهلت الاتصالات من المهجر إلى بلدان الأصل، و المواصلات سَهُلت عما كانت عليه بالقبل، فأثمان التنقل بالطائرة مثلا انخفضت اذا قارننا أول أجيال الهجرة و إلى حدود التسعينات مع ما بعدها و حتى اليوم، كما أن انفتاح بلدان الهجرة على وفود المزيد من المهاجرين مكَّن المهاجرين من تشييد مساجد و مدارس و فتح محلات تجارية و مطاعم و غيرها من تجليات تراث المهاجر الديني و اللغوي و الثقافي….فالغربة بفضل كل هذا أقل حدة و يكاد الإحساس بها في بعض الأحيان يختفي…هذا العامل يختلف كثيرا من بلد لآخر بحسب حجم حضور المهاجرين و كثافة أنشطتهم و أصبح مرتبطا ببعض البلدان بتعبيرات مواطنيين محليين مسلمين أكثر من ارتباطها بوافدين جدد، مما صبغ كل هذه الأمور بنوع من المصداقية المحلية على نسبيتها.

سادس الأسباب التي تعود بكثافة حين الحديث عما يُبعد حلم العودة عن أذهان بعض المهاجرين هو مستوى التغطية الصحية و التأمين الاجتماعي و بحدة أقل نزاهة القضاء التي تجدها في مستوى جيد في غالب الدول المستقبلة للهجرة أو على الأقل أحسن في دول الاستقبال مما هي عليه في الدول المصدِّرة.

أما الباقي الذي لا يجد نفسه في هذه الأسباب فربما الوضع أسهل قراءة، فإن هي أسباب الهجرة لم تسقط بعد، فبعدم سقوطها كيف للمهاجر أن يعود..

قد يجد المهاجر، المغربي خصوصا، نفسه في بعض أسباب العودة أو في بعض أسباب عدم العودة، و قد يقرر العودة من عدمها و لكن الخط الأحمر يبقى قرار دفن الجثمان بعد الوفاة. فرغم إمكانيات الدفن بمقابر المسلمين بالخارج الاي أصبحت تتقوى و تتكاثر، يبقى المغربي عموما وفيا للعودة الأخيرة كما لو أنه يقول، أن العودة تتأخر فقط و لكنها آتية يوما لا محالة.

يذكرني ذلك بمقولة سارتر بأن القبر هو أهدأ المنازل و ما العودة للأصل إلا بحث عن الهدوء, تجاوز لكل العتاب و مصالحة مع الجذور…

ما العمل؟

هذا السجال الأبدي الذي يشغل جل المهاجرين حول العودة و جدواها و حول اختيار الوقت المناسب و المكان المناسب بأخذ كل الاعتبارات المحيطة بعمل المهاجر و دراسة أبنائه، لن ينتهي بسهولة و لن تكون الإجابة عنه واحدة. فلكل مهاجر ظروفه و وضعه العائلي و الاجتماعي السابق ببلد الأصل، و له ظروفه الأسرية و المهنية الخاصة ببلد المهجر و له أيضا ظروف عائلية و مهنية و اجتماعية يُسقِط نفسه فيها افتراضا إن عاد لبلده الأم.

كل هذا يجعل السؤال شخصيا و الإجابة عنه أكثر شخصية و أكثر خصوصية.

و بتحليلي للعديد من حالات الهجرة و الهجرة المضادة رأيت الكثير من الأصدقاء كانوا ضد الهجرة و هاجروا أو كانوا ضد العودة و عادوا. بل و هناك من عاد مثلا للمغرب و ندم لعدم عودته مبكرا كما أعرف من بقي بضع سنين بعد عودته ثم عاد للمهجر. هناك من عاد لنفس بلد المهجر و هناك من اختار بلدا آخر.

سمعت من الكثير من الأصدقاء كل الأسباب الموضوعية للرحيل و سمعت غيرها للعودة.

كنت شاهدا على من هاجر لسبب مادي ثم عاد لسبب مادي بعد سنين، و كنت شاهدا لمن هاجر لسبب مادي، ثم عاد للمغرب ليهاجر لسبب آخر.

و رغم شُحّ المعلومات و الدراسات العلمية حول الموضوع بالمغرب مثلا رغم أننا بلد مصدر للهجرة و أصبحنا أيضا مستقبِلا لها، يبدو من البديهي أن على الإنسان أن يبني حياته على أولويات يُحدِّدها هو، و أن يقبل سواء عاش بالرباط، بباريس أو دبي، بلندن أو مونتريال، أن الكمال لله و أنه أينما عاش عليه أن يتمتع بالنقاط الإيجابية و أن يتأقلم مع السلبيات و يتغاضى عنها حتى يعيش بسعادة يشاركها أسرتَه و ألا يأكُله من الداخل هَمُّ الهجرة أو العودة من عدمهما.

فلمن يعيش بالمغرب مثلا و يرجو الهجرة، أرض الله واسعة، و عليه العمل بالمغرب كما لو كان سيبقى به دائما و إن هاجر أن يبني مستقبله بنفس العزم.

و على من قرر الهجرة أو البقاء بالخارج، أن يعلم أننا قد نسكن المغرب أو لا نسكنه و لكن المغرب يسكننا و بإمكاننا إن لم نتمكن من إنشاء أبناء made in Morocco أن ننشئ أبناءً made by Morocco و متشبعين بقيم المغرب مع أخذ كل إيجابيات مَواطن الهجرة و هي كثيرة من احترام الإنسان و احترام الوقت و قيم الديموقراطية و معاداة العنصرية و قبول الاختلاف و غيرها مما قد تتقدم فيه بعض الأمم عن المغرب و عن دول الجنوب عموما.

أما و قد اختار البعض البقاء و البعض العودة فعلى المغرب خصوصا باعتباره بلدا معنيا و بكثافة بهذه الظاهرة أن يخُصّها يالدراسات و الأبحاث من كل الاختصاصات لفهمها و تحليلها و الاستفادة منها.

كما عليه أن يساهم لإنجاح كل المبادرات الفردية و الجماعية التي تربط المهاجر المغربي ببلده و تمتين الحبل السُّري خصوصا بأولاد و أحفاد المهاجرين الذين تربطهم بالمغرب علاقة مختلفة…

أتمنى أن تثري هذه المساهمة النقاش العمومي حول الهجرة بكل تشعباته، فالموضوع سياسي و ثقافي و ديني و  اجتماعي و اقتصادي و علمي و مهني، و ربما قبل كل هذا و بعده، فلسفي للغاية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

محكمة أمريكية تدين “جوجل” باحتكار سوق الإعلانات وتفتح الباب لتفكيك ذراعها الإعلاني

المنشور التالي

الخطوط الملكية المغربية توقع اتفاقية شراكة تاريخية مع الاتحاد الإفريقي لكرة القدم

المقالات ذات الصلة