المغرب: من نهضة عمران إلى نهضة إنسان (الحلقة 3)

بقلم الدكتور أحمد أزوغ: أستاذ باحث، مدير ماستر للذكاء الإصطناعي بباريس

بواعث التخلق: كيف للتخلق أن ينبع من الداخل

في المقال الثاني من هذه السلسلة، تناولنا الدوافع الخارجية التي تُحرّك سلوك الإنسان المغربي: الإيمان (الديني)، السلطان (القانوني)، والجيران (الاجتماعي). وقد بيّنا أن هذه الدوافع الأخلاقية، إذا اعتمدت بمقاربة سطحية، فلن تُنتج تخلقًا دائمًا ولا سلوكًا مستقيمًا مستمرًا، بل تُبقي الإنسان في حالة امتثال مشروط، يتغير بتغيّر السياق أو المصلحة. فكم من شخص صادق أمام القانون ويكذب حين يغيب، أو يتقيّد بالآداب في العلن ويتحلّل منها في الخفاء، أو يتدين شكلاً لا مضمونًا.

إن النهضة الأخلاقية المنشودة لا يمكن أن تُبنى على الإكراه والرقابة وحدهما، بل تحتاج إلى بواعث داخلية أعمق، تنبع من اقتناع الإنسان ووجدانه، لا من سلط خارجية. فالدافع الأصيل للتخلق هو ما ينبع من الذات، لا ما يُفرض من الخارج.

ومن هنا، تأتي أهمية فهم ما يحرك الإنسان المغربي من ذاته لتبني خلق ما، دون ضغط أو مجاملة، وهو ما نسميه بواعث الأخلاق الذاتية ونجملها في ثلاث: الرجحان كناية عن المصلحة، والبرهان كناية عن العقل، والوجدان كناية عن الضمير.

الرجحان: حين يكون الخلق وسيلة لا غاية

وأما الرجحان فنقصد به ذلك الباعث النفعي البراغماتي الذي يُحرّك الإنسان حين يُوازن بين الأفعال من منطلق المصلحة الفردية، فيرجّح منها ما يبدو له أكثر نفعًا أو أقل كلفة، متخذًا الأخلاق وسيلة لتحقيق غاية. بل إن هذا الدافع المصلحي، بما يحمله من براغماتية خفية، أصبح اليوم من أقوى البواعث الفعلية المؤثرة في سلوك الأفراد، حيث تُغلّف كثير من التصرفات بمظهر أخلاقي بينما المحرّك الحقيقي هو النفع الشخصي أو تفادي الضرر. 

تُعبّر عن هذا الباعث تعبيرات شائعة من قبيل: “دير مزيان باش ترتاح”، أو “اللي دار الخير راه كيرجع ليه”. وهذه ليست دعوات إلى الخير لذاته، بل إلى الخير باعتباره استثمارًا شخصيًا. وهو الدافع الذي يجعل الشخص يبتسم في وجه الغني ويعبس في وجه الفقير، ويُلاطف الجميل ويُعرض عن الذميم، ويُقدّم الرشوة إذا خدمته، ويستنكرها إذا أضرت بمصلحته ونفعت غريمه. 

ويظهر هذا المنطق أيضًا في الأمثال التي تُحذّر من التخلق غير المحسوب، كقولهم: “ما دير خير ما يطرى باس”، أو في ممارسات مثل “الكذب الأبيض” لتفادي إحراج أو مصلحة آنية. نحن هنا أمام أخلاق نفعية مشروطة بالنتائج، لا مبدئية. وقد وجدت هذه النظرة ما يُقابلها في الفلسفة، خصوصًا عند جيريمي بنثام وجون ستيوارت ميل، رواد الفلسفة النفعية، حيث تُقاس قيمة الفعل بمدى ما يُحققه من فائدة أو راحة، لا بصفته الجوهرية. وكذا مع ماكيافيلي، الذي رأى أن الفضيلة ليست مطلوبة لذاتها، بل حين تكون وسيلة إلى تحقيق الغاية.

إن الرجحان سيف ذو حدين. فإذا توافقت المصلحة الفردية مع المصلحة الجماعية، خدمت أخلاق الفرد مصالح المجتمع، وأما إذا تعارضتا، كان الفرد وبالًا على محيطه. الرجحان إذن هو ميزان المصلحة لا ميزان القيم، محفّز عملي لكنه هش. إنه باعثٌ قوي من حيث الانتشار، بل هو أكثر ما يتحكم اليوم في سلوك الأفراد، لكنه يظل ضعيفًا من حيث الفعالية الأخلاقية الصادقة طويلة الأمد.

البرهان: قوة العقل لتقويم السلوك 

وأما البرهان فنشير به إلى العقل والمنطق، والتفكير النقدي. وهنا، لا يُنظر إلى الأخلاق كامتثال لأمر ديني أو قانوني أو عرفي، بل كنتيجة لتفكير عقلاني تأملي، يجعل الإنسان يتبنى الخلق عن قناعة، لا لمصلحته بل لأنه يراه صوابًا يستحق التعميم. يتبناه إما لما له من أثر صالح على المدى البعيد، أو لأنه عادل وصائب في ذاته. لماذا لا أغش؟ لأن ذلك يُخرّب منظومة التعليم وينتج موظفين غير أكفاء. لماذا أكون صادقًا؟ لأن الكذب يُفقد الثقة ويؤدي إلى انهيار الأسرة والمجتمع. 

هذه المقاربة تُعبّر عنها الفلسفة الأخلاقية عند سقراط وأفلاطون، كما يُعمّقها كانط، الذي يرى أن الفعل الأخلاقي يجب أن يتم تعميمه كعدالة كونية. كما يدافع ابن رشد عن قدرة العقل على الإقناع بالتخلق، ويرى الفارابي أن المدينة الفاضلة لا تقوم إلا بالعقل والمعرفة.في هذا التصور، لا تُفهم الأخلاق كمجرد سلوك نافع للفرد أو وسيلة لتفادي العقاب، بل كقواعد تستمد شرعيتها من قدرتها على الإقناع. إنها أخلاق تتأسس على مبادئ منطقية مجردة، تُلزم الإنسان بواجباته لا لأن فيها مصلحة مباشرة، بل لأنها صائبة. 

هذا البعد حاضر بقوة عند المنظمات الحقوقية والبيئية، التي يعد نشطاؤها من أشد الناس تمسكًا بآرائهم واستماتة في الدفاع عنها لاقتناعهم الراسخ بعدالة قضيتهم. أما في السياق المغربي، فقلما يُربى النشء على السؤال الأخلاقي: لماذا هذا الفعل خير؟ ولماذا ذاك شر؟ بل يُطلب منه غالبًا الامتثال. في المدارس، نُربّي الطفل على الحفظ أكثر من الفهم، وعلى الطاعة أكثر من التأمل. وهو ما يجعل البرهان، كمحدد أخلاقي، ضعيف الانتشار. لكنه في العمق، من أقوى البواعث إذا تم تفعيله. فكم سنقتصد في تكاليف المراقبين والمفتشين وكاميرات المراقبة ورجال الشرطة إذا كان أغلب المجتمع مقتنعًا بحسن السلوك وضرورة الالتزام به.

ورغم اعتماده على العلم والمعرفة، إلا أن الأخلاق ليست علمًا دقيقًا، فحساب المآلات يختلف بين شخص وآخر، وتعريف الخلق الجيد يختلف باختلاف الأفهام والمراجع. فإذا تعارض العقل مع الدين أو القانون أو المجتمع وقع الضرر.

الوجدان: عندما يُلهم الضمير الخلق

أخيرًا، هناك الوجدان، أو ما يمكن تسميته بالروح الأخلاقية. هو ذلك الصوت الداخلي الذي يُشعر الإنسان أن الخير جميل، والشر قبيح، حتى من غير تحليل ولا حساب ولا رقابة. هو شعور داخلي، يكون نابعًا من الرحمة، والحياء، وتأنيب الضمير. هو ذلك المتفرج المحايد الذي يحكم علينا من داخلنا كما ذكر آدم سميث، وهو ذلك التعاطف الذي ذكره ديفيد هيوم كمصدر للسلوك الأخلاقي، وهي تلك الأخلاق القلبية التي ذكرها ابن قيم الجوزية في “مدارج السالكين”.

والتراث المغربي حافل بمعاني الباعث الداخلي كالشهامة، والشجاعة، والشرف. لكن من أصدق تجليات الوجدان المغربي، فضيلة الكرم والإحسان، التي لا تُمارَس فقط التزامًا دينيًا أو استجابة لعُرف اجتماعي، بل تنبع من إحساس داخلي صادق. فالكرم عند المغربي ليس مجرد واجب تجاه الضيف، بل موقف وجداني يُمارس بفرح واعتزاز، حتى من الفقراء والمحتاجين. هو فعل أخلاقي ذاتي المنشأ، نابع من الرحمة، والنبل، لا من الخوف ولا من الرياء. ولقد كانت الهبة المشهودة للمغاربة قاطبة لنجدة منكوبي زلزال الحوز من أجمل التعبيرات على قوة هذا الوجدان العاطفي ورسوخه في المجتمع المغربي. 

ثم كيف لنا أن نغفل المفهوم المغربي الخالص للنية، والذي تجلى من خلال ملحمة كأس العالم 2022، عندما قال المدرب وليد الركراكي عبارته الشهيرة: “غادي نلعبو بالنية”. لم تكن “النية” هنا مجرّد نية دينية ولا قصدًا تقنيًا، بل كانت تعبيرًا عن صفاء السريرة، وروح الجماعة، والتفاني في البذل دون مقابل. لقد أصبح “اللعب بالنية” شعارًا مغربيًا شعبيًا يحمل حمولة وجدانية جماعية: أن تُخلص، أن تعمل بشرف، أن تُؤمن بالمستحيل دون غرور. بهذه الروح التي استطاع الركراكي أن يغرسها في لاعبيه، تحوّلت “النية” من إرادة باطنية إلى قوة فعلية غيّرت مجرى التاريخ وألهمت أمة بأكملها، ما يؤكد أن الوجدان الصادق يملك، حين يُفعّل، قدرة استثنائية على التحفيز والتغيير. إن الوجدان المغربي وإن كان غنيًا بوجدان أخلاقي أصيل، إلا أن تأثيره ما زال محدودًا ارتباطًا بأخلاق اجتماعية مثل الصدق، والأمانة، والنزاهة.

والوجدان نفسه نسبي. فاستحسان الخلق أو استنكاره مرتبط بذكريات الإنسان ووسطه وتجاربه. ومن هنا تبرز مركزية التربية على الذوق الرفيع والحس الروحي الأصيل الذي يرى جميلاً ما يتوافق مع ثوابت المجتمع وتراثه وهويته، دون أن يقمع الحرية أو يمنع المجتمع من التطور والفرد من الإبداع.

خلاصة

لقد استعرضنا في هذا المقال ثلاث بواعث داخلية للتخلق: الرجحان، والبرهان، والوجدان. وهي تمثل مداخل مختلفة إلى الأخلاق: عبر المصلحة و العقل و الضمير. ورأينا كيف أن كل باعث منها يملك قوة كامنة إذا ما فُعِّل في بيئة حاضنة تُنمي الوعي، وتُقدّر القدوة، وتُحفز على التزكية.

لكننا اليوم أمام سؤال استراتيجي: كيف نُفعّل هذه البواعث في واقعنا؟ هل نعيد بناء منظومتنا الأخلاقية من الداخل فقط، أم نستفيد من تجارب الأمم التي سبقتنا في هذا المضمار؟

وإذا كانت عامة الأخلاق الاجتماعية قيماً كونية تتقاطع فيها مختلف الثقافات، فهل يكفي أن نستورد تجارب جاهزة لتطوير منظومتنا الخلقية؟ أم ننغلق على أنفسنا، ونحاكي تراثنا كما هو دون تمحيص؟ قبل أن نسلك هذا الطريق أو ذاك، أليس من الحكمة أن نطّلع على تجارب غيرنا، لنفهم ما نجحوا فيه، وما فشلوا فيه، وما يمكن أن يُلهمنا لبناء نموذج أخلاقي مغربي متجدد، يجمع بين الجذور والآمال؟

هذا ما سنحاول تقديمه في المقال القادم، حيث نقف على نماذج أخلاقية من العالم، لنقارن ونتأمل، لا لنُقلّد وننسخ، بل لنستلهم ونبدع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

صدمة في الوسط الفني المصري؛ وفاة سليمان عيد

المنشور التالي

مارك زوكربيرغ في قفص الاتهام: هل تجبر ميتا على بيع إنستغرام وواتساب؟

المقالات ذات الصلة