قراءة نقدية في مراسلة رئيس الحكومة إلى وزير الصحة

بقلم زينب البهي: باحثة في علم النفس 

تثير المراسلة الصادرة عن رئيس الحكومة المغربية بتاريخ 13 أكتوبر 2025، الموجهة إلى وزير الصحة والحماية الاجتماعية بخصوص الترخيص في اللجوء إلى صفقات تفاوضية لتأهيل المراكز الاستشفائية، نقاشا قانونيا ودستوريا عميقا حول حدود السلطة التنفيذية ومدى احترامها لمبادئ الشرعية والشفافية والمساءلة. فبين من يعتبر القرار خطوة عملية لمواجهة وضعية حرجة داخل المؤسسات الصحية، ومن يراه انزلاقا قانونيا يكرس ثقافة الاستثناء، تتجلى إشكالية الحكامة في تدبير المال العام والمرفق الصحي بالمغرب.

رغم استناد الرسالة إلى المرسوم رقم 2.22.431 المتعلق بالصفقات العمومية، فإن مضمونها يكشف عن ثغرات قانونية واضحة. فالمادة 154 من هذا المرسوم لا تسمح باللجوء إلى الصفقات التفاوضية إلا في حالات دقيقة ومحددة، مثل الكوارث الطبيعية أو الظروف الأمنية أو الاستعجال القصوى غير المتوقعة. غير أن الرسالة تبرر الترخيص بعبارات فضفاضة من قبيل “وضعية حرجة ومتدهورة” للمراكز الصحية، وهو توصيف إداري عام لا يرقى إلى حالة الضرورة القصوى كما حددها القانون.

إضافة إلى ذلك، لا تتضمن المراسلة أي تحديد زمني لسريان الترخيص، ولا تحدد سقف الميزانيات أو أسماء المؤسسات المعنية، مما يفتح الباب أمام التأويل الواسع ويضعف الرقابة المالية. كما أن الوثيقة لا تشير إلى حصولها على التأشير المالي المسبق من الخازن العام للمملكة، وهو إجراء إلزامي يضمن قانونية الالتزامات المالية للدولة.

أما من حيث الشكل الدستوري، فإن القرار لم يمر عبر مجلس الحكومة كما يفرض الفصل 92 من الدستور، ولم يخضع لأي نقاش برلماني رغم طابعه المالي والتنفيذي. هذا الغياب للرقابة التشريعية يشكل إخلالا بمبدأ التوازن بين السلط، ويجعل السلطة التنفيذية في موقع متفرد في اتخاذ قرارات تمس المال العام دون مساءلة سياسية مباشرة.

ثم إن الرسالة تحمل إشارات إلى “التوجيهات الملكية السامية”، وهي صيغة مألوفة في الخطاب الإداري المغربي، لكنها تطرح إشكالا دستوريا دقيقا. فربط قرار إداري صرف بشرعية رمزية عليا يحول دون إمكانية الطعن فيه أو مساءلة أصحابه، ويضفي على العمل التنفيذي طابعا شبه مطلق. في حين أن الدستور يقر بوضوح أن كل قرار إداري يجب أن يستند إلى أساس قانوني محدد، لا إلى شرعية رمزية أو سياسية.

هذا الخلط بين المرجعية القانونية والسياسية يعكس أزمة في الممارسة الإدارية، حيث تتحول الشرعية الرمزية إلى غطاء يحمي قرارات قد تفتقر إلى الأسس القانونية والشفافية المطلوبة. إنه نوع من تسييس القرار الإداري، يضعف استقلال المؤسسات ويؤثر في مصداقية الدولة أمام المواطنين والرأي العام.

أما من الناحية السياسية، فهذه المراسلة تعكس استمرار ثقافة الاستثناء في تدبير الشأن العام. فبدل اعتماد إصلاح هيكلي للمراكز الصحية، يتم اللجوء إلى قرارات استعجالية ترقيعية بدعوى مواجهة أوضاع حرجة. هذه المقاربة الظرفية تكشف عن ضعف التخطيط الاستراتيجي في القطاع الصحي، وعن غياب رؤية تنموية متكاملة تضمن الاستدامة والعدالة في توزيع الموارد.

كما أن فتح باب الصفقات التفاوضية دون منافسة فعلية يخلق بيئة خصبة للزبونية والريع الإداري، خصوصا في غياب آليات مراقبة فعالة وشفافة. وهو ما يتعارض مع الشعارات الرسمية التي ترفعها الحكومة حول الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة. فبين الخطاب والممارسة تتسع فجوة الثقة، وتتعزز لدى المواطن قناعة بأن القوانين تُطبق بانتقائية وأن الاستثناء أصبح هو القاعدة.

الرسالة تكشف أيضا عن خلل في التنسيق بين القطاعات الحكومية، خصوصا بين وزارة الصحة ووزارة المالية والخزينة العامة. فالمشاريع العمومية الكبرى تتطلب رؤية مشتركة ومتابعة دقيقة، وليس قرارات أحادية صادرة في شكل تراخيص استثنائية. غياب هذه المقاربة التشاركية يجعل القرارات الحكومية تبدو منعزلة ومبنية على ردود أفعال آنية بدل استراتيجية طويلة المدى.

من زاوية أعمق، تعكس هذه الوثيقة فشل الدولة في ترسيخ مبدأ التخطيط الاستباقي، واستمرارها في إدارة الأزمات بدل استشرافها. إنها نتيجة مباشرة لضعف المساءلة المؤسساتية، ولقصور ثقافة تقييم السياسات العمومية على أساس النتائج لا النوايا.

الترخيص الاستثنائي في الصفقات العمومية يجب أن يظل أداة استثنائية مقيدة لا وسيلة سهلة لتجاوز التعقيدات القانونية. المطلوب اليوم هو إصلاح جذري للمساطر الإدارية والمالية يجعلها أكثر سرعة وشفافية دون المساس بالرقابة والمحاسبة. كما يجب تفعيل دور البرلمان والمجتمع المدني في تتبع الصفقات العمومية، ضمانا للنزاهة والإنصاف في تدبير المال العام.

إن رسالة رئيس الحكومة، رغم ما قد تحمله من نوايا حسنة لإنقاذ المراكز الصحية المتدهورة، تظل من الناحية القانونية والدستورية مثالا على هشاشة الحكامة وتوسيع هامش الاستثناء على حساب المشروعية. فالاستثناء، حين يتكرر، يفقد معناه القانوني ويتحول إلى قاعدة، وهو ما يشكل خطرا على دولة القانون والمؤسسات.

إن بناء ثقة المواطن في الإدارة لن يتحقق بالترخيصات الاستثنائية ولا بالخطابات السياسية، بل بتكريس مبدأ المساواة أمام القانون، وضمان الشفافية في التسيير، وربط القرار الإداري بمسؤولية سياسية واضحة. فالقانون ليس عائقا أمام الفعالية، بل هو الضمان الوحيد لعدم تحول الفعالية إلى فوضى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

سرقة مجوهرات لا تقدر بثمن من متحف اللوفر تهز فرنسا

المنشور التالي

البيان الذي كتب شهادة وفاة “البوليساريو”

المقالات ذات الصلة