بقلم الدكتور أحمد أزوغ: أستاذ باحث، مدير ماستر للذكاء الاصطناعي بباريس
في مساء ربيعي من شهر ماي، قررنا، أنا ولطفي، أن نلتقي في مكان مختلف هذه المرة. لا مقاعد الحدائق، ولا المقاهي العتيقة. اخترنا ساحة “تروكاديرو” الشهيرة المطلة على برج إيفل، ذلك المعلم الشامخ الذي لم يُبنَ تخليدًا لحرب أو تمجيدًا لصراع، بل احتفاءً بالعقل والبناء، والذي ظل واقفًا يشهد على لقاءات الأدباء، وصور العشاق، وخطى الغرباء.
جلسنا بصمت لدقائق، نراقب النهر والبرج والناس، وكأننا نمنح أنفسنا فرصة لرؤية العالم من زاوية أوسع. ثم قال لي لطفي، وهو يمد يده نحو كوب القهوة:
– أحمد، لقد شغلتني أحاديثنا طيلة الأسبوع… أعدت قراءتها في ذهني أكثر من مرة. هل تصدق أننا شعبان جاران، ومع ذلك لا نعرف عن بعضنا إلا ما تنقله شذرات التواصل الاجتماعي؟ بل أحيانًا لا نرى من الآخر إلا قبحه، أو ما نريد أن نراه فيه.
أجبته وأنا أرتب دفاتري:
– صدقت يا لطفي. المشكلة أن هذا الجهل المتبادل يتغذى من خطاب الكراهية، من الإعلام الحربي، من الشعارات الفارغة، بينما الحقيقة تقول إننا نعيش فوق أرض واحدة، نطل على بحر واحد، لنا جوار واحد، وتاريخ مترابط، وجغرافيا لا تسمح بالانقسام.
ثم استرسلت قائلاً:
– لكن الأخطر من الجهل هو الاستمرار في التنازع وكأن لا طريق آخر. أن نُسلّم بوجود صراع لا نهاية له. وهذا وهم. فإما أن يُحلّ هذا الخلاف بالحسنى، وإما أن يتصاعد فينقلب – لا قدّر الله – إلى مواجهة مباشرة. ولن تكون تلك حربًا رابحة لأي طرف، لأن لا أحد يستطيع حسمها: جيشان قويان، شعبان كبيران، ومساحة شاسعة لا تسع نار العداء.
نظر إليّ لطفي نظرة قلقة وقال:
– يعني ترى أن الأمل في المصالحة لا يزال ممكنًا؟
نظرت إليه مترددًا، ثم قلت بنبرة أسى:
– أتعلم يا لطفي، سأكون صريحًا معك… نظامكم العسكري هو أكبر عقبة أمام هذه المصالحة.
قاطعني بنبرة دفاعية:
– وماذا عن نظامكم الملكي؟ نحن على الأقل جمهورية ديمقراطية، ننتخب رؤساءنا بحرية.
ابتسمت بمرارة وقلت له:
– أمتأكد يا لطفي أن لديكم كامل الحرية في اختيار رؤسائكم؟ وأن الرؤساء فعلاً هم من يحكم؟ ألا ترى أن من يحكم فعليًا في الجزائر هو الجيش؟ ألا ترى أن كبار قادته من الجنرالات هم الذين حاربوا المغرب في حرب الرمال وحرب الصحراء، وما زالوا يحملون في نفوسهم حقدًا دفينًا علينا؟
أجابني بحزم:
– هذا صحيح، خطب جيشنا على المغرب عدائية، لكن لا أظن أن نظامكم أكثر تقدمًا أو أكثر لطفًا.
أجبته بثقة:
– هذا لأنكم لا تعرفوننا يا لطفي إلا عبر إعلامكم الموجّه المستعدي للمغرب. أما الحقيقة، فنحن نسير نحو توسيع الهامش الديمقراطي تدريجيًا، وقد قامت الملكية بإصلاحات دستورية حوّلت السلطة التنفيذية إلى رئيس حكومة منتخب من الحزب الأول الفائز بالانتخابات، مع حرية معارضة وتعبير، ونقد لكل المؤسسات، ومادام في ذلك الاحترام والتوقير اللازم للمؤسسات فالسلطة تكفل حرية التعبير. الفرق أننا لا نبني دولتنا على معاداة الجار، ولا نغطي مشاكلنا الداخلية بعداوات وهمية خارجية.
قاطعني لطفي قائلاً:
– لطالما عبّر سياسيونا وإعلاميونا عن عدم عداوتهم للشعب المغربي، وأن خلافهم هو مع النظام المغربي.
أجبته ضاحكًا:
– ذلك سمّ في عسل يا لطفي. لطالما تابعتُ أيضًا بعض الدعوات “المضحكة” التي تصدر من إعلاميين وأحزاب جزائرية تدّعي حب الشعب المغربي، ثم تدعو هذا الشعب نفسه للثورة على نظامه، بحجة بناء اتحاد مغاربي. بالله عليك، هل تظن أن من يجهل ارتباط المغاربة بملكهم وبوطنهم سيكسب ثقتهم؟
ثم واصلت:
– إنني تابعتُ كذلك دعم نظامكم لانفصاليين من الريف المغربي، وتمويل أنشطتهم، وفتح المجال لهم، بينما نحن لم نفتح سفارة لانفصاليي القبايل، ولم نمولهم. ومع ذلك، تذكرنا تناقضاتكم حين تطالبون بتقرير المصير للصحراء وتمنعونه عن القبايل. إن كنتم تؤمنون حقًا بهذا المبدأ، فكونوا منسجمين مع أنفسكم. أما نحن، فنعلم أن الريف جزء لا يتجزأ من وطننا، وأبناء الريف وطنيون ضحوا لتحريره ويواصلون التضحية لبنائه.
أطرق لطفي رأسه قليلاً، ثم رفع نظره وقال:
– صدقني يا أحمد، رغم كل شيء، هناك كثيرون في الجزائر يتمنّون المصالحة، بل ويحلمون أن يروا الحدود تُفتح من جديد، وأن نتبادل الزيارات كما يفعل الأوروبيون. عدد كثير من العائلات المختلطة بين المغرب والجزائر ستَسْهُل حياتها. منظرها وهي تتبادل التحايا والهتافات على الحدود بين المغرب والجزائر، قرب السعيدية ومرسى بن مهيدي، يؤلم القلب.
أجبته وأنا أضع آخر رشفة من كأس القهوة:
– وأنا كذلك يا لطفي، أتمنى ذلك. وكذلك كثير من أبناء الشعب المغربي. فنحن المغاربة، بطبيعتنا يا لطفي، شعب كريم مضياف، بشهادة كل السياح الأجانب بالمغرب. لكننا نكره الغدر والظلم.
أجابني لطفي:
– وبشهادة كثير من الجزائريين في المهجر، يا أحمد، فأصدقائي المغاربة كرماء، حملوا معهم لطفهم إلى الخارج. وكذلك الشعب الجزائري يقدّر الشهامة والرجولة والثبات على المبادئ. فما السبيل في رأيك لحل الخلاف، يا أحمد؟
قلت له بثقة:
– أما بين الساسة، فلا حلّ – بالنسبة لي – إلا أن توقف الجزائر دعمها للانفصال في الصحراء المغربية بالمال والسلاح، وأن تترك الصحراويين – على الأقل – أحرارًا في تقرير مصيرهم دون تدخل، ليس كما تفعل الآن من توجيه البوليساريو كالكراكيز لخدمة أجندات انفصالية عدائية.
قاطعني لطفي:
– لكن قد تقول الجزائر إن موقفها مبدئي…
قلت بهدوء:
– المبادئ تُختبر في نتائجها. وما دام هذا المبدأ قد أدّى إلى قطيعة شاملة بين شعبين، ومنع أي تقارب حقيقي، فربما آن الأوان لمراجعة جدواه. ثم إن كل المؤشرات تدل على أن تلك المساعي الانفصالية باتت عبئًا أخلاقيًا واستراتيجيًا على الجزائر نفسها دون جدوى، في حين أن حلّ الحكم الذاتي في ظلّ الوحدة الترابية بات هو الأكثر إجماعًا. ثم، غير هذا وذاك، فالشعب المغربي قد اختار، وهو مجمع على ألا يتنازل عن صحرائه مهما كلّف الثمن. الوحدة المغاربية أغلى من المبادئ العقيمة، والأجدى اليوم أن تنطلق مفاوضات مباشرة، صادقة، لإنهاء هذا الملف، وكل الملفات العالقة الأخرى، من الصحراء الشرقية إلى الوضع الحدودي.
أجابني لطفي:
– صحيح أن المفاوضات المباشرة هي أفضل حل، لكنني أظن أن الوضع العدائي بين الشعبين اليوم يمنع كل تواصل، وكأننا في ساحة حرب إعلامية.
قلت باهتمام:
– صدقت يا لطفي، وهذا تقع مسؤوليته، بالخصوص، على عاتق النخب من البلدين. لطالما تركت هذه النخب هذا الخلاف بأيدي العامة. لا يصح أن يتحول تواصلنا إلى ساحة معارك على تويتر وفيسبوك، بين مؤثرين همّهم حصد المشاهدات واللايكات. على الحكماء بين البلدين أن يملؤوا الساحة لتوجيه الشعوب بحكمة. على كل واحد منا أن يكفّ عن التدخل في الشأن الداخلي للآخر، إلا من باب النصح الأخوي. لنا مشاكلنا، ولكم مشاكلكم، ولكل منا إنجازاته وتجاربه النافعة.
هزّ لطفي رأسه وقال:
– هذا جميل، لكنني لا أرى أن من السهل مقارعة المد الإعلامي بسهولة، خاصة مدّ العداء والمخاصمة.
قلت:
– بالتأكيد، نحن نحتاج إلى بناء الثقة عبر المؤسسات كذلك. نحتاج إلى أن يتعرف شبابنا على بعضهم في المدارس، والجامعات، والمخيمات. نحتاج إلى مهرجانات فنية وثقافية تُظهر لنا كم نحن متشابهو الروح والذوق. نحتاج إلى أن نرى الإنسان في بعضنا، لا الشعارات.
ثم أضفت وأنا أنظر إليه بصدق:
– نحتاج أيضًا إلى أن نركّز في مشاكلنا الداخلية: في تحسين التعليم، ومحاربة الفساد، وتوزيع الثروات، وبناء دولة القانون. لا فائدة من صراعات خارجية نُغطي بها عجزنا الداخلي. لا أنتم مستفيدون من ذلك، ولا نحن.
أجابني لطفي، وهو يومئ برأسه:
– فعلاً يا أحمد، لقد غرقنا في الصراعات الإيديولوجية العقيمة، وإرث الماضي، ونسينا مصالحنا والمستقبل. قد تكون أبلغ لغة نتحدثها هي الاقتصاد، ولغة المصالح. ربما لو أدرك السياسيون والعسكريون أن ما يمكن أن يربحوه من السلم أكثر مما يخسرونه في العداء، لأغلقوا ملفات الماضي وفتحوا بوابة المستقبل. ألا ترى أن إرث الماضي أثر علينا كثيرًا في بناء تحالف قوي؟
– صدقت تمامًا يا لطفي. إن الأزمات الاقتصادية التي تعصف اليوم بالعالم، من الطاقة إلى التضخم، تجعل من التكامل الاقتصادي المغاربي فرصة تاريخية. تخيّل معي لو أن المغرب والجزائر تعاونا في مشاريع الطاقة، وفي تطوير الموانئ، وفي إنشاء منطقة تبادل حر، بل حتى في تأمين الغذاء والدواء والتكنولوجيا لشعوبنا. لو اتحدنا، لكنا قوة حقيقية في وجه أوروبا وإفريقيا، بدل أن نبقى سوقًا استهلاكية فقط.
قال لطفي بعد تأمل:
– كلامك مؤلم وصادق. كم أتمنى أن يسمعه من بيده القرار!
قلت:
– علينا أن نبدأ بأنفسنا. أن نُظهر لشعوبنا صوتًا آخر غير صوت الشتم والتحريض. أن نكون جسورًا لا متاريس. فالتاريخ سيسألنا يومًا: هل كنتم أهل حكمة؟ هل تركتم أولادكم على طريق المصالحة أم الحرب؟
ابتسم لطفي، وهمّ بالوقوف، وقال:
– لنتعاهد إذن يا أحمد، أن نكون من الداعين للحكمة، ولو بالكلمة. وإن انتهى هذا الحوار بيننا اليوم، فإن صوت الحكمة الذي بدأناه هنا، سيظل حيًا في القلوب، حتى يعلو فوق أصوات التفرقة يومًا ما.
وقفت معه، وتصافحت أيدينا تحت أضواء برج إيفل، بينما كانت ألوان الغروب تعانق السماء فوق نهر السين. لم يكن اللقاء مجرد نهاية لسلسلة من الحوارات، بل كان وعدًا صامتًا بأن الطريق نحو الحكمة لا يُبنى بالشعارات، بل بالصدق، والشجاعة، والتسامح.
وبينما اشتعلت أنوار البرج إيذانًا بقدوم الليل، سمعنا ضحكات أطفال من جنسيات مختلفة يركضون حولنا… فتذكرت أن الأوطان التي تصنع الفرح لأبنائها، هي وحدها القادرة على منحهم مستقبلًا مشتركًا، مهما اختلفت الطرق.
تعاهدنا، أنا ولطفي، أن نظل من الداعين للحكمة، ولو بالكلمة.
أن نُبقي الأمل مشتعلاً… حتى تنكسر الجدران، وتُفتح الأبواب من جديد، بين ضفتي وطنٍ واحدٍ، اسمه: المغرب الكبير.