بقلم الدكتور أحمد أزوغ: أستاذ باحث، مدير ماستر للذكاء الاصطناعي بباريس
في صباح دافئ من خريف باريس، تناثر ضوء الشمس على أدراج مسجد باريس، حيث يلتقي العمران المغربي مع منبر مصري، ولوحات فرنسية، وإدارة جزائرية. تمازج عجيب لطالما لاك أسئلة على ألسن المغاربيين. هل مسجد باريس الكبير فرنسي أم مغربي أم جزائري؟
اخترت هذا المكان تحديدًا لألتقي من جديد بصديقي لطفي، الجزائري الذي أشارك معه ماضينا المتشابك، واختلافاتنا التي لا تنتهي.
كان لطفي هذه المرة يحمل بيده كتابًا عن التراث المغاربي، وقد دسّ بين صفحاته العريضة عشرات القصاصات والصور. جلسنا على الدرجات بعد صلاة العصر، مستمتعين بحديقة المسجد الأندلسية الغناء، وتغريد العصافير الشجيّ، ينساب بين أغصان الياسمين كألحان أندلسية توقظ ذاكرة الحجر والماء.
ثم نظر إليّ مبتسمًا بنبرة تخفي شيئًا من الغضب المكبوت، وقال:
– أحمد، لن أتحدث اليوم عن السياسة، لا عن الصحراء، ولا الغاز، ولا حتى عن التطبيع… حديثي اليوم عن شيء آخر لا يقل حساسية: التراث. هل تريدون فعلاً أن تستحوذوا على كل شيء؟! القفطان؟ الزليج؟ الكسكس؟! كل شيء صار مغربيًا عندكم! بل حتى “الراي” و”الملحفة” لم يسلما من أيديكم!
ضحكت بهدوء، وأنا أرتب وشاحي، ثم أجبته قائلاً:
– لطفي… دعني أكون صريحًا معك. صحيح أن الثقافة جزء من الهوية، لكن هل يعقل أن نحولها إلى ساحة تنازع دائم؟
ثم استرسلت قائلاً:
– الثقافة ليست مجرد ملكية، إنها أيضًا غنى مشترك، وتجربة متبادلة، ومرآة لحياة الشعوب وهي تتحرك وتتلاقى وتتأثر وتؤثر.
وأضفت بنبرة أكثر هدوءًا:
– أتعلم ما يحزن يا لطفي؟ أننا بدل أن نفرح حين نجد تشابهًا بين رقصاتنا أو أزيائنا أو موسيقانا، نبادر للاتهام. بدل أن نحتفي بهذا التلاقي، نتسابق لإثبات من اخترع أولًا ومن ارتدى أولًا. كأننا لم نكن يومًا شعبين متمازجين نتشارك العادات والهويات والتقاليد. إن الثقافة لا تعرف الحدود التي خطها المستعمر، بل إنها مثل الطيور عابرة للحواجز. إن بلدين جارين طبيعي أن يتشاركا كثيرًا من مظاهر ثقافتهما، كما يوجد في سائر أنحاء العالم.
هزّ لطفي رأسه موافقًا، ثم قال بهدوء:
– كلامك صحيح يا أحمد، قبل أيام سمعت موسيقى صينية تقليدية، فوجدتها قريبة من ألحان أمازيغية جزائرية معروفة عندنا، فأحسست بقرب الثقافة الصينية التقليدية لي. لا أفهم لماذا فقط نحن الإخوة المتشاكسون لا يرضى منا أحد أن تكون ثقافته قريبة من ثقافة الآخر.
أجبته وأنا أطرق رأسي متأملًا:
– لا أظن أننا كنا دائمًا كذلك يا لطفي، فقد كبر المغاربة وهم يدندنون بألحان دحمان الحراشي الجزائري، وكبرت الجزائريات وهنّ يعشقن جمال القفطان المغربي، ولطالما اشتغل معلمو الزليج والجبص الفاسي في ترميم وزخرفة المساجد والبنايات في الجزائر. إن الصراع احتدم فقط في السنوات الأخيرة بفعل الندية الكبيرة التي احتدمت بين البلدين.
قاطعنِي لطفي قائلاً:
– لكنني صراحة يا أحمد لا أراها فقط صراعا، وإنما حاجة حقيقية لمعرفة أصل تراث بلدينا والاعتزاز به. أليس عندنا القفطان والزليج في الجزائر كما لديكم قفطان وزليج في المغرب؟ فلماذا تنسبونه إليكم؟
أجبته بنبرة صافية:
– لطفي أنا لا أنكر أن هناك قفطانًا في تلمسان والعاصمة، ولا أنكر أن هناك زليجًا في تلمسان، وخاصة في قصر المشور. ولكن نسبة التراث إلى بلد ما لا يقتصر على تواجده فيها، فالناس يحتفلون بالهالوين في فرنسا كما يحتفلون به في نيويورك، فهل الهالوين أمريكي أم فرنسي؟ طبعًا هو أمريكي. هناك تراث أصيل وهناك تراث طارئ.
ثم تابعت بتأنٍ:
– القفطان عرفه المغرب منذ العصر المريني والسعدي، وتطور فيه ليُصبح رمزًا رسميًا يرتبط بالسلطنة والمناسبات، ثم ترسخ في الذاكرة الجماعية كمظهر من مظاهر الفخر الثقافي المغربي، يُلبس في المناسبات من شمال المغرب إلى جنوبه. لقد فتحت عيني، يا لطفي، كما سائر الأسر المغربية، على ثقافة الجلابة والتكشيطة والقفطان والتفصيلة والعقاد والسفيفة.. وكم قضينا من أوقات ونحن نرافق أمهاتنا وخالاتنا إلى المعلم الخياط لتفصيل ألبسة جديدة لهن في كل مناسبة دينية أو عائلية. ثقافة القفطان يا لطفي متجذرة في المجتمع المغربي. لا يمكن أن تتصور المرأة المغربية نفسها حاضرة في عرس دون لبس القفطان أو التكشيطة.
ثم أكملت بجدية:
– في الجزائر، القفطان ليس متجذرًا بنفس العمق والاستمرارية التي عرفها في المغرب، بل حضوره هناك كان محدودًا وموسميًا، غالبًا في مناطق كانت تابعة للمغرب تاريخيًا كمدينة تلمسان. لكنه لم يكن اللباس الرمزي العام للمرأة الجزائرية مثل الكاراكو أو الجبة القبائلية. هذه ألبسة جزائرية جميلة ونحن لا ننازعكم فيها، فلماذا تتركونها وتدّعون ملكية القفطان؟
قال لي لطفي وهو يبتسم ابتسامة ممزوجة بالدهشة:
– صحيح أن أجمل القفاطين النسائية تأتينا من المغرب، وهذا لا ننازعكم فيه، لكن قل لي بالله عليك، هل كان طبيعيًا أن تحتجوا كل ذلك الاحتجاج على قميص التدريب للمنتخب الجزائري الذي صنعته أديداس؟ هل الزليج كذلك لكم؟ أم تريد أن تحدثني على التراث الأصيل؟ أليس الزليج موجودًا في الجزائر، خاصة في قصر المشور؟
قلت له وأنا أنظر في عينيه:
– جميل لطفي، أذكر لي مكانًا آخر يوجد فيه الزليج في الجزائر؟
أجاب بسرعة:
– الزليج في كل مكان في الجزائر يا أحمد، منذ عهد العثمانيين.
سألته مستفهمًا:
– أمتأكد أنت يا لطفي أنه يشبه زليج قصر المشور التلمساني بأشكاله الهندسية الملونة المنتظمة؟
أطرق رأسه قليلًا، ثم قال:
– في الحقيقة لا أذكر إلا زليج قصر المشور بذلك الانتظام الهندسي.
فقلت له مشيرًا بيدي نحو الجدار:
– طبعا، لأن أغلب زليجكم يا لطفي في الجزائر بزخارف نباتية، وهذا تراثكم لم ننازعكم فيه. ثم أنظر حولك يا لطفي، أليس هذا المسجد نفسه مزينًا بنفس تلك القطع الزليجية الهندسية؟
سألني باهتمام:
– صدقت، يا أحمد. من بناه أصلًا؟
قلت له موضحًا:
– مسجد باريس الكبير (Grande Mosquée de Paris)، الذي افتُتح رسميًا سنة 1926، تم بناؤه وزخرفته بمشاركة واسعة من الحرفيين المغاربة، برعاية الدولة الفرنسية. المهندس الرئيسي للمسجد هو Maurice Tranchant de Lunel، وكان حينها مديرًا للفنون الجميلة في المغرب. استوحى تصميم المسجد من العمارة الموحدية المغربية، على طراز جامع القرويين في فاس وجامع الكتبية في مراكش.
أضفت بنبرة فخر:
– أغلب مساجد المغرب بنفس هذه الزخرفة. كيف تريدون أن تنازعوننا يا لطفي في زخرفة معمارية فتحنا أعيننا عليها في كل مسجد ورياض، بل وحتى المدارس والحمامات والحدائق؟
قال لي لطفي بتساؤل:
– طيب يا أحمد، لكن ما الذي يمنع شركة أديداس أن تستعمل الزليج في قميصنا الجزائري؟
أجبته بابتسامة ودية:
– نحن لا نمنع أحدًا من استعماله أو الإعجاب به، لكن نسبه يجب أن يكون واضحًا، لأنه جزء من هوية حضارية عمرها قرون.
ثم استرسلت موضحًا:
– أتدري يا لطفي أن المغرب سجّل الزليج الفاسي كعلامة تصديق رسمية في كندا، تحت رقم App. 2173171؟ نعم، علامة تصديق، يعني أن أي جهة تُنتج الزليج بهذا الاسم يجب أن تحترم معايير محددة، وأن يكون مُرتبطًا بمنطقة فاس، باعتباره تراثًا متجذرًا فيها. الجهة التي قامت بهذا الإجراء هي وزارة الصناعة التقليدية المغربية، في خطوة لحماية هذا الفن المغربي دوليًا.
قال لي لطفي بنبرة لا تخلو من تحدٍّ:
– طيب، والكسكس يا أحمد؟ هل هو مغربي أيضًا؟
أجبته ضاحكا:
– لكم كسكسكم ولنا كسكسنا، (ثم ضحكنا) الكسكس يا لطفي تراث مشترك، متجذر عندنا كما عندكم، بل إن الكسكس عندنا له في كل جهة طريقة، وعاداتنا مازالت على أكله كل يوم جمعة بعد الصلاة إلى اليوم. ولهذا سجلناه كتراث مشترك بين الدول المغاربية في اليونيسكو.
ثم أضفت قائلاً:
– مثل الكسكس، هناك كثير من التراث المشترك بيننا، ففن المالوف عندكم يشبه فن الآلة عندنا، والغرناطي الجزائري والمغربي متشابهان، والقشابية الجزائرية أخت الجلابة الرجالية المغربية، والبرنوس عندكم أخ السلهام عندنا. وفن الراي نشأ عندكم في وهران وتطور في الجزائر كما في المغرب. تراث مشترك بأوجه مختلفة، هو فخر وغنى لنا أجمعين.
قال لي لطفي:
– جميل يا أحمد، لكن كل ما ذكرته إما تراث مغربي أو تراث مشترك. أليس لنا تراث خاص بنا؟
أجبته مبتسمًا:
– طبعًا، بلدكم غني بتراثه الواسع، وهذا طبيعي بحكم حجمه الكبير. لكن المشكل في إعلامكم وصفحاتكم، تركز على التراث المغربي للاستحواذ عليه أو التراث المشترك للاستفراد به، وتنسى أن لكم تراثًا أصيلاً عليكم أن تطوروه. طبعا لكل منا الحق في الإعجاب بتراثه جاره وتطويره حتى، لكن عليه أن يعترف بأصل ذاك التراث.
ثم أضفت :
– هل ترى قميص منتخبكم الجديد بزخارفه النباتية الجميلة؟ هل نازعناكم فيه؟ لا، فهذا تراثكم، هو جميل وعليكم أن تطوروه. أنتم ورثتم الطابع العثماني ببصمته الجميلة في زخارف الجبس النباتي، وقبب المساجد، وباحات الدور. وقد أضاف الاستعمار الفرنسي طرازًا كولونياليًا واضحًا في العاصمة ووهران وعنابة. أما نحن في المغرب، فقد حافظنا على طرازنا الأندلسي المغربي، من النقوش الخشبية، إلى الزليج، إلى الحدائق المستوحاة من رياضات غرناطة، وكذا البناء الأمازيغي الأصيل بقلاعه وحصونه. إنه اختلاف يعطي لكل بلد مذاقه، وليس مدعاة للعداوة أو الإنكار.
أجابني لطفي وصوت أذان المغرب يرتفع في أرجاء مسجد باريس الكبير، قائلاً بنبرة خفّت حدّتها:
– كلامك منطقي يا أحمد. في الحقيقة، صراعاتنا أغلبها لها حلّ إن صدقت النوايا وصَفَت السرائر.
ثم نظر إليّ نظرة مليئة بالرجاء، قبل أن يضيف:
– لكن قل لي، ما السبيل في نظرك إلى لمّ الشمل؟ كيف نعيد بناء الثقة بيننا من جديد؟
أجبته وأنا أنظر إلى المئذنة وقد غمرها نور الغروب :
– لطفي، الأمل في الله لا ينقطع. دعنا نصلِّ المغرب أولًا، ثم نكمل الأسبوع المقبل هذا الحوار… ربما يكون ذلك أول خيط ننسج به عباءة الثقة من جديد، وسط هذا البحر المتلاطم من الاتهامات الذي يغمر الشعبين.