في قلب جبال الأطلس، تخرج ساكنة آيت بوكماز في مسيرات سلمية هادئة، لا ترفع إلا صور جلالة الملك والراية المغربية، ولا تطالب إلا بما يُفترض أنه بديهي: حقها في الحياة الكريمة. عشر مطالب واضحة لا تقبل التأويل ولا التسويف، من قبيل إصلاح الطرق، توفير النقل المدرسي، وجود طبيب قار، تجهيز المركز الصحي، تأمين التغطية الهاتفية والأنترنت، بناء مدرسة جماعية وسدود تلية، وإحداث فضاءات للشباب. ليست هذه رفاهيات، بل ضروريات، ومطالب لا تعبر عن نزعة احتجاجية ظرفية، بقدر ما تكشف عن عمق شعور بالتهميش وغياب العدالة المجالية.
لا يمكن النظر إلى تحركات ساكنة آيت بوكماز بمعزل عن السياق الوطني العام الذي يُرفع فيه شعار الدولة الاجتماعية الذي رفعته حكومة أخنوش. فحين تتحول سيارة إسعاف إلى مطلب يُكتب على لافتة، فإن الأمر لا يتعلق بتقصير بسيط، بل بخلل في فهم دور الحكومة المغربية ووظيفتها الأساسية. “الدولة الاجتماعية” ليست خطابًا للاستهلاك السياسي، بل التزام عملي دائم بأن يصل الإنصاف إلى أبعد نقطة في التراب الوطني، قبل أن يتراكم الإحباط ويتحول إلى احتجاج. للأسف، ما زلنا أمام واقع يتم فيه الانتظار حتى تنفجر المسيرات كي يتحرك المسؤولون، وكأن المواطن يجب أن يحتج لينتزع حقًّا أوليًّا من حقوقه.
المثير في هذا المشهد أن الساكنة لم تطالب بمشاريع استثنائية أو استثمارات ضخمة، بل ببنية تحتية بسيطة كفيلة بفك العزلة وتحسين شروط العيش، وبتجهيزات اجتماعية وصحية وتعليمية تُعتبر من صميم الواجبات اليومية للإدارة الترابية والمجالس المنتخبة والقطاعات الحكومية. ولا يمكن بأي حال من الأحوال تبرير هذا التأخر المستمر في التفاعل مع احتياجات المواطن، خاصة حين تكون واضحة ومكتوبة وذات طابع استعجالي. فالمطالب لا تحمل طابعًا سياسويًّا، ولا تخفي خلفها أي أجندة خفية، بل هي صوت عفوي صادر من عمق الجبل، يعبر عن ألم يومي معاش، لا يُسمع إلا عندما يصعد صداه إلى الشارع.
الحكومة التي تتبنى النموذج الاجتماعي لا يمكن أن تشتغل بمنطق إخماد الأزمات بعد وقوعها، بل بمنطق الاستباق والإنصات والإنجاز. وهذا لا يتطلب فقط موارد مالية، بل إرادة سياسية وإدارية حقيقية، ومحاسبة لذوي المسؤولية المحلية والإقليمية الذين اكتفوا بدور المتفرج. في زمن الكرامة المواطنة، لا يكفي أن تُعلن البرامج من الرباط، بل يجب أن تُجسَّد على الأرض، في كل دوار وجماعة وقرية.
ما يحدث في آيت بوكماز ليس سوى إنذار من هامش يرفض أن يُنسى. وعلى الجهات المعنية أن تقرأ الرسالة جيدًا، وتتحرك في الوقت المناسب، لا بعد أن تتكرر المسيرات وتتعالى الأصوات. المواطن لم يخرج يائسًا ولا غاضبًا، بل خرج مؤمنًا بأن الإنصات ما زال ممكنًا، وأن الدولة قادرة على الوصول إليه. فهل من مجيب؟