يستعد THE PRESS لإطلاق سلسلة من الحلقات حول الدبلوماسية الدينية المغربية، التي باتت إحدى ركائز القوة الناعمة للمملكة وجسرا روحيا لتعزيز العلاقات مع إفريقيا والعالم, سلسلة تسلط الضوء على كيف استطاع المغرب أن يصوغ نموذجا دينيا معتدلا، يرتكز على المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني تحت مظلة مؤسسة إمارة المؤمنين.
وفي هذا المقال التقديمي سنقربكم اكثر من أهم حلقات هذه السلسلة:
ما هي الدبلوماسية الدينية المغربية؟
في السياق المغربي يرتكز هذا النموذج على تقديم مرجعية دينية معتدلة، تقوم على ثلاث ركائز أساسية: المذهب المالكي في الفقه، والعقيدة الأشعرية في الإيمان، التصوف السني في السلوك والتزكية ويشرف على هذا النموذج مؤسسة إمارة المؤمنين التي تشكل إطارا جامعا يجمع بين الشرعية الدينية والسياسية، ما يمنح المغرب قدرة متميزة على تفعيل دبلوماسية دينية متوازنة وذات مصداقية.
من التجديد إلى التصدير..
انطلق المسار الحديث للدبلوماسية الدينية المغربية عقب تفجيرات الدار البيضاء سنة 2003 التي شكلت لحظة مفصلية دفعت الدولة إلى تبني إصلاح شامل للحقل الديني، بهدف ترسيخ الأمن الروحي ومحاربة التطرف. وشمل هذا الإصلاح إعادة هيكلة المجالس العلمية والمجلس العلمي الأعلى وتقنين الخطاب الديني في المساجد لضمان انسجامه مع الثوابت الوطنية، إلى جانب إدماج النساء في الإرشاد الديني. ومن أبرز محطات هذا المسار تأسيس معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات سنة 2015، الذي تطور لاحقا ليصبح مؤسسة إقليمية لتكوين الأطر الدينية من عدة دول إفريقية وأوروبية ما يعكس تنامي ثقة هذه الدول في النموذج المغربي ومرجعيته الدينية المعتدلة.
الأدوات والآليات المعتمدة
تعتمد الدبلوماسية الدينية المغربية على مجموعة من الأدوات والآليات التي تكرس حضورها الروحي إقليميا ودوليا. في طليعة هذه الأدوات يبرز تكوين الأئمة والمرشدين الأجانب في معهد محمد السادس الذي أصبح منصة للتكوين الديني المعتدل وفق المرجعية المغربية. كما تبرم المملكة اتفاقيات تعاون مع وزارات الأوقاف والشؤون الإسلامية في عدد من الدول الإفريقية، ما يساهم في توحيد الجهود لمواجهة التطرف كما يحرص المغرب أيضا على إرسال بعثات من الوعاظ والعالمات إلى الخارج خاصة خلال شهر رمضان، لتعزيز الروابط الروحية مع الجاليات والدول الصديقة.
ومن بين الآليات البارزة كذلك تنظيم ملتقيات دينية دولية، كـ”منتدى العلماء الأفارقة” الذي يشكل فضاء للحوار العلمي والتنسيق الديني بين المغرب وعمقه الإفريقي، إضافة إلى تأطير الجالية المغربية المقيمة بالخارج بخطاب ديني موحد ومتوازن يحفظ ارتباطها بالثوابت الوطنية.
الأهداف الاستراتيجية للدبلوماسية الدينية
لا تقتصر أهداف الدبلوماسية الدينية المغربية على البعد الروحي فحسب، بل تمتد لتشمل أبعادا استراتيجية متعددة. فهي تسعى إلى محاربة التطرف من خلال نشر قيم الإسلام الوسطي المعتدل وتعزيز الروابط الروحية والثقافية مع دول إفريقيا جنوب الصحراء، بما يعمق علاقات التعاون التاريخي ويقوي الحضور المغربي في العمق الإفريقي.
كما تهدف هذه السياسة إلى توسيع النفوذ السياسي للمغرب في مناطق ذات أهمية جيوسياسية، إلى جانب حماية الجاليات المغربية في الخارج من تأثيرات التيارات المتشددة. و تهدف الى ترسيخ صورة المغرب كبلد يتمتع بالاستقرار الديني والسياسي ما يعزز مكانته كفاعل موثوق في قضايا الأمن الروحي على الصعيدين الإقليمي والدولي.
من يقود هذه الدبلوماسية؟
يتوزع تنفيذ هذه الدبلوماسية الدينية المغربية بين عدة فاعلين يعملون بتنسيق ضمن منظومة متكاملة. في مقدمتهم الملك محمد السادس بصفته أمير المؤمنين الذي يشكل المرجعية الدينية العليا ومصدر الشرعية لهذه السياسة. وتشرف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على تنفيذ البرامج المرتبطة بالتكوين والإيفاد خاصة من خلال معهد محمد السادس الذي يعنى بتكوين الأئمة والمرشدين من داخل المغرب وخارجه. كما يضطلع المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية الجهوية بدور محوري في ضبط الخطاب الديني وتوحيده, كما تشارك السفارات المغربية في الخارج في تأطير الأنشطة الدينية الدولية.
نتائج ملموسة على أرض الواقع
أثمرت الدبلوماسية الدينية المغربية عن نتائج ملموسة عززت مكانة المملكة إقليميا ودوليا. فمنذ سنة 2015 تم تكوين أكثر من 5000 إمام ومرشدة أجنبية في معهد محمد السادس ما يعكس الإقبال المتزايد على النموذج المغربي في التكوين الديني. كما أبرمت المملكة عشرات الاتفاقيات مع دول إفريقية كمالي والسنغال، وغينيا وتشاد ونيجيريا، لتأطير التعاون الديني بشكل مؤسساتي.
وشهدت السنوات الأخيرة اهتماما متزايدا من دول أوروبية للاستفادة من هذا النموذج خاصة في ظل التحديات المرتبطة بالاندماج ومحاربة التطرف وبفضل هذه الجهود بات المغرب يعتبر مركزا مرجعيا في إفريقيا في مجال مكافحة التطرف وتعزيز الأمن الروحي حيثلا حظي بإشادة دولية لدوره الفاعل في نشر قيم التعايش والسلام وترسيخ الإسلام المعتدل كرافعة للاستقرار والتنمية.
تحديات تواجه هذا المشروع
رغم ما حققته من إشعاع متزايد واعتراف دولي، تواجه الدبلوماسية الدينية المغربية تحديات معقدة قد تؤثر على استمرارية فعاليتها. من أبرز هذه التحديات المنافسة التي تشكلها نماذج دينية أخرى، كالفكر الإخواني والشيعي، كما يواجه النموذج المغربي صعوبة في الفصل بين الديني والسياسي في نظر بعض المتابعين، ما قد يؤثر على تقبل خطابه خاصة في السياقات الغربية أو ذات الحساسية تجاه المسائل الدينية. ويضاف إلى ذلك نقص في الكفاءات المؤهلة لتأطير الحقل الديني بالخارج القادرة على الجمع بين التكوين الشرعي العميق والوعي بالسياقات الثقافية والسياسية للبلدان المستقبِلة. هذا فضلا عن التحولات الاجتماعية والسياسية التي تعرفها تلك الدول، والتي قد تضعف من تأثير الخطاب المغربي أو تخلق مقاومة محلية له، ما يتطلب مراجعة مستمرة للأساليب وتكييفا دائما مع المتغيرات.
تؤكد تجربة المغرب أن الدين عندما يدار برؤية استراتيجية ووسطية، يمكن أن يتحول إلى أداة دبلوماسية فعالة. فالمغرب لم يكتف بتدبير شأنه الديني داخليا، بل عمل على تصدير نموذج متماسك ومعتدل إلى محيطه الإفريقي، ما جعله يكتسب شرعية روحية تعزز حضوره السياسي والاقتصادي أيضا.