رواتب للغائبين ومشاريع في الإنعاش.. من يحاسب من؟

في مغرب ما بعد الدستور الجديد، حيث المواطن يُطالب بالمحاسبة قبل الخطاب، وبالنتائج قبل الوعود، تطفو إلى السطح فضيحة صامتة تُنذر بانهيار أحد أهم أركان الديمقراطية المحلية: مجالس الجماعات تحوّلت في كثير من الجهات إلى مسارح فارغة، تُدار من قبل أشباح يتقاضون تعويضاتهم بانتظام.. دون أن يظهروا في الجلسات أو يسهموا في أي قرار.

ليست المسألة مجرد تغيب عرضي أو طارئ شخصي، بل هي نمط سلوكي عام تُباركه صمت السلطات المحلية وتواطؤ بعض رؤساء الجماعات، ممن ارتضوا تسوية الغياب بالتساهل بدل أن يُفعّلوا القوانين. القانون التنظيمي 113.14 يقولها بوضوح: الغياب غير المبرر لثلاث دورات متتالية أو خمس غير متتالية يُفضي إلى العزل. لكن ما نراه على الأرض هو العكس تماماً: منتخبون غائبون منذ سنوات، ومع ذلك يتصدرون لوائح التعويضات، ويواصلون الاستفادة من “ريع جماعي” بلا وجه حق.

المشهد مخزٍ بامتياز: جماعات لا يكتمل فيها النصاب القانوني، جلسات تُلغى، قرارات تُؤجل، ومشاريع تنموية تُدفن بسبب غياب الإرادة والضمير. بعض المنتخبين لم يضعوا أقدامهم في المجلس منذ خمس سنوات، ومع ذلك لم يسائلهم أحد، لا سلطة وصية، ولا رأي عام محلي، ولا حتى زملاؤهم في المعارضة الذين بدؤوا أخيراً بكسر الصمت.

والأخطر من ذلك، أن هذه الفوضى تقتل ما تبقى من ثقة المواطن في المؤسسات، وتحوّل صناديق الاقتراع إلى ديكور ديمقراطي فارغ من أي مضمون. كيف نطلب من المواطنين الإيمان بالمسلسل الانتخابي، والمشاركة في الاستحقاقات، وهم يرون ممثليهم المنتخبين يختفون فور إعلان النتائج؟ كيف نبني مغرب الجهات والحكامة الترابية، بمنتخبين يعاملون العمل الجماعي كعطلة مدفوعة الأجر؟

التحرك الأخير لوزارة الداخلية، بتعليماتها الصارمة لرؤساء الجماعات بتسجيل الحضور تحت إشراف الولاة والعمال، هو خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها تبقى رمزية إن لم تُترجم إلى قرارات جريئة: عزل المتغيبين فوراً، نشر لوائحهم للرأي العام، واسترجاع الأموال المصروفة ظلماً باسم “التمثيل”.

لقد آن الأوان لنفض الغبار عن المجالس الجماعية، وإعادة الاعتبار للعمل الانتدابي كمهمة نضالية لا وسيلة للاغتناء أو الغياب المريح. الوطن لا يحتاج إلى “برلمان ظل” يُرهق الميزانيات ويعطل المصالح، بل إلى طاقات حقيقية حاضرة، ملتزمة، وواعية بثقل المسؤولية. وإلا فإننا أمام مسرحية جماعية سيئة الإخراج، يدفع ثمنها المواطن.. وتُصفق لها قلة من المنتفعين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

مغرب الحضارة.. حتى لا تضيع الطبقة الصغيرة والمتوسطة في العالم القروي

المنشور التالي

النفط يتراجع مجددًا بفعل مخاوف تباطؤ النمو في أمريكا والصين

المقالات ذات الصلة