هل يطمح المغرب حقا إلى احتلال الجزائر؟ من سردية التوسع إلى أفق التكامل (الحلقة الثالثة)

الدكتور أحمد أزوغ: أستاذ باحث، مدير ماستر للذكاء الاصطناعي بباريس

التقينا هذه المرة في ركنٍ هادئ من حديقة التويلري، بين متحف اللوفر وساحة الكونكورد، حيث تعلو المسلّة المصرية وسط الساحة، في مشهدٍ يخلّد عظمة الحضارة القديمة. أخرج لطفي من حقيبته جريدة جزائرية، وقد تصدّرت صفحتها الأولى عبارة مثيرة: “هل يخطط المغرب لاحتلال الجزائر؟” قلب صفحاتها ثم توقف عند خريطة المغرب الكبير المعروفة، والتفت إلي قائلاً بحماس:

– أحمد، ألا زلتم تحلمون بالمغرب الكبير؟ كيف نثق في نواياكم بالصحراء الغربية، وأنتم تطمعون في الصحراء الشرقية، بل حتى في موريتانيا ومالي؟

أجبته بوثوق:

– جميل سؤالك الصريح يا لطفي، ولقد واعدتك أن أجيبك عن كل الأسئلة، لكن عليك أن تكون صبورًا، وأن تحكم العقل لا العاطفة.

ابتسمتُ بهدوء، وأنا أخرج من حقيبتي مقتبسات وخرائط من موسوعة دائرة المعارف البريطانية المشهورة، وقلت:

– لطفي، إن كنت تريد الحقيقة، فدعنا نبدأ من الجذور. ما سأقوله ليس ضد أي بلد من المنطقة، لكن المغرب لم يكن مملكة صغيرة محصورة بين البحر والجبل. كان في فترات كثيرة من التاريخ قلب إمبراطورية الغرب الإسلامي، تمتد من شمال الأندلس إلى نهر السنغال، ومن الأطلس المتوسط إلى أعماق الصحراء الكبرى. هل تعلم أن المغرب كان يسمى الإمبراطورية الشريفة حتى نهاية القرن 19؟ يمكنك أن تقارن تاريخ المغرب وخلافته بالغرب الإسلامي بتاريخ تركيا خلافتها العثمانية، رغم الفوارق. في عهد المرابطين، أسّس يوسف بن تاشفين دولة عاصمتها مراكش، وبسط نفوذه على سوس، درعة، آدرار، وشنقيط، وحتى تمبكتو وجاو. الصحراء كانت هي المعبر، والمورد، والفضاء الطبيعي لوحدة القبائل. ثم جاء الموحدون بعده، بقيادة عبد المؤمن بن علي، فجعلوا من مراكش عاصمة لخلافة تمتد من ليبيا إلى الأطلسي، ومن الأندلس إلى عمق إفريقيا. وفي زمن السعديين، كان السلطان أحمد المنصور الذهبي يرسل الجيوش إلى بلاد السودان ويُعيّن القواد في توات وتندوف، بل ووقعت معركة “تنبوكتو” سنة 1591 تحت قيادته.

رد علي متمعنًا:

– مهم معرفة ذلك يا أحمد، لكن كانت تلك عصور غابرة. (وأكمل ضاحكًا) ولستم تحت حكم السعديين اليوم على ما أعتقد.

أخرجت من هاتفي صورًا لمراسلات تعود إلى القرن التاسع عشر، ثم تابعت:

– بل حتى في عهد الدولة العلوية، التي تحكم المغرب حتى اليوم، ظلّت الروابط قائمة. السلطان محمد بن عبد الله تلقى رسائل بيعة من زعماء آدرار وتوات وتندوف. وفي عهد المولى عبد الرحمن، كانت الزكاة تُجبى من تلك المناطق، والظهائر السلطانية تُرسل لتنظيم شؤون القبائل. بل إن العديد من شيوخ هذه المناطق كانوا يحضرون “ركب الحج المغربي” المنظم من طرف السلطنة، يلتقون بالسلطان، ويعرضون عليه مشاكلهم كما يفعل الرعايا في فاس وسلا.

قاطعني لطفي قائلاً:

– لكن فرنسا رسمت خريطة الجزائر بطريقة نهائية، أليس كذلك؟

أجبته بثقة:

– بل فرضتها فرضًا. معاهدة لالة مغنية سنة 1845 بين المغرب وفرنسا اعترفت فقط بحدود شمالية، وتركت الجنوب دون ترسيم واضح، لأن فرنسا لم تكن قد احتلته بعد. وما حدث لاحقًا أن فرنسا، دون مفاوضات، ضمّت مناطق مثل تندوف، وبشار، وتوات، إلى الجزائر الفرنسية رغم أنها كانت محسوبة على السيادة المغربية.

قال بتعجب:

– ما نعرفه يا أحمد هو أن الاستعمار الفرنسي للجزائر بدأ سنة 1830، واستمر طوال 132 عامًا، حتى نالت الجزائر استقلالها في 1962، بعد واحدة من أطول وأعنف حركات التحرر في القرن العشرين. ألم تبدأ الحماية الفرنسية في المغرب إلا عام 1912؟ الجزائر كانت معروفة ذلك الوقت إذن.

أجبته باهتمام:

– الأمر يحتاج إلى تفاصيل يا لطفي. الجزائر احتلت على مراحل هي الأخرى، وكان الغرب والجنوب الجزائري آخر تلك المراحل. فـمنطقة توات وتديكلت كانت تابعة لمغرب السلطان المولى الحسن الأول، لكن فرنسا شنت حملات عسكرية متفرقة ما بين 1890 و1903، انتهت بمعركة عين صالح واحتلال توات، ثم بشار وتندوف لاحقًا. وفي سنة 1905، أعلنت فرنسا رسميًا ضم تندوف إلى “الجزائر الفرنسية”، رغم احتجاج المغرب ورفضه الاعتراف بذلك. بل إن السلطان عبد العزيز آنذاك أرسل رسائل تنديد، ورفض المغرب التوقيع على أي وثيقة تعترف بهذا التقسيم.

عقب قائلاً:

– وهل لديك دليل على هذا؟

أجبته بثقة:

– طبعًا. هناك سجلات ولادة ووثائق هوية تعود لبداية القرن العشرين، محفوظة في الأرشيف بالرباط، تخصّ سكان تندوف وبشار وتحمل أختام السلطات المخزنية المغربية. بعضها يحمل توقيع قائد تندوف المعين من طرف السلطان المغربي. لم يكن هذا مجرد ورقيات، بل حتى الظهائر السلطانية استمرت في تعيين القواد المحليين إلى ما بعد 1910، وبعضهم كان يرفع الزكاة والضرائب إلى مراكش وفاس، وليس إلى الجزائر الفرنسية. هذه الوثائق كانت حجة أساسية في المذكرات المغربية خلال مفاوضات ما بعد الاستقلال، حين طلب المغرب من فرنسا تسوية ملف الحدود الشرقية. لكنه صُدم أن فرنسا سلّمت هذه المناطق لقادة الثورة الجزائرية دون العودة إليه، رغم وعدهم المغرب في مؤتمر طنجة 1958 بالنظر في الأمر بعد استقلال المغرب.

ثم قلت:

– لطفي، هل تعرف أن المغرب كان يستطيع بسهولة استرجاع تندوف وبشار في الخمسينات؟ فرنسا نفسها، حين ضاقت ذرعًا بدعمنا للثورة الجزائرية، عرضت على الملك محمد الخامس سنة 1957 صفقة مغرية: أن نوقف دعم المقاومة، مقابل أن تسلّم لنا تندوف وبشار. لكن محمد الخامس أجابهم بجملة لا تُنسى: “لن نبيع إخواننا في الجزائر مقابل أرضٍ هي لنا أصلًا”. فالملك رفض العرض رفضًا قاطعًا، وفضّل أن يبقى الشعب الجزائري مدعومًا من المغرب. كان قد أخذ وعدًا أن يُناقش هذا الملف مباشرة مع حكومة جزائرية مستقلة، أخوية، بعد التحرير…

قال لطفي بحماس:

– ثم ماذا فعلتم بعد أن تحررنا؟ هاجمتنا قواتكم مباشرة في حرب الرمال المشؤومة؟ كيف تدّعون أنكم إخوتنا ثم تهاجموننا مباشرة بعد تحررنا؟

قلت له بهدوء:

– حرب الرمال يا لطفي، بين المغرب والجزائر في أكتوبر 1963، لم تكن حربًا مفاجئة من المغرب على الجزائر، بل كانت نتيجة سلسلة من الأسباب التاريخية والسياسية والأمنية التي تراكمت منذ استقلال البلدين. فمنذ تحرر الجزائر، حاول المغرب فتح باب الحوار حول أراضيه التاريخية المستقطعة، وعُقدت عدة محادثات بين مسؤولي البلدين سنة 1962–1963، لكنها باءت بالفشل بسبب تعنّت الجزائر في إدخال أي تعديل على حدودها الغربية الموروثة عن الاستعمار.

وتابعت موضحًا:

– كان لانقلاب مجموعة وجدة بقيادة بومدين وبن بلة على الحكومة المؤقتة بقيادة فرحات عباس أثر كبير في توتير العلاقات مع المغرب. ثم اندلعت الحرب فعليًا بعد اشتباك مسلح في منطقة حاسي بيضا، بين دورية جزائرية ومفرزة مغربية، بعدما رأت السلطات المغربية أن الجيش الجزائري تمدد في أراضٍ غير مرسمة. هذه الحرب، بالمناسبة، لم تدم سوى ثلاثة أسابيع، وخلفت حوالي 500 ضحية، رحمهم الله. فلا داعي للتهويل والتضخيم.

قال لطفي بنبرة حاسمة:

– وماذا تريدون الآن؟ أن نعيد لكم تلك الأراضي؟ الغرب الجزائري حُرِّر بدماء الشهداء، ولن نسلّم فيه أبدًا.

ابتسمتُ باحترام، وأجبته:

– لطفي، لا أحد يزايد على تضحيات الجزائريين. ملوك المغرب كلهم أشادوا بالثورة الجزائرية، وترحّموا على شهدائها. نعرف أن الغرب الجزائري كما شرقه رُوي بدماء شهدائكم، وأنكم قاومتم فرنسا بشجاعة ودفعتُم ثمنًا باهظًا للحرية. لكن دعني أقول لك شيئًا: هل تعلم أن كثيرًا من هؤلاء الشهداء، الذين تتحدث عنهم، قاتلوا تحت راية المغرب، واحتضنهم ترابه، ودعمهم ملكه؟ هل تعلم أن قواعد جيش التحرير الجزائري كانت في وجدة، وجرادة، وبركان؟ وأن السلاح الذي دخل إلى الغرب الجزائري عبر المغرب لم يكن عابر سبيل، بل كان موقف دولة وشعب؟

رد عليّ لطفي قائلًا:

– ليس هذا ما أشاهده على مستوى صفحاتكم يا أحمد. سترى كيف تعجّ بخريطة وهمية تقضم الجزائر من الغرب والجنوب، وتتهكم على الشهداء الجزائريين و جماجمهم.

قلت بهدوء وحزم:

– هذا لأنكم لقد فضلتم صمّ آذانكم عن دعوات الملك المتكررة، ثم أصبحتم تتحاورون مع المؤثرين في السوشيال ميديا. هل مواقف الدول تؤخذ من مواقع التواصل الاجتماعي؟ ألم يؤكد الملك مرارًا أن أي شر لن يأتي للجزائر من غربها؟ ونحن نعلم أن أكبر شرّ على الدول هو محاولة تفتيت جغرافيتها، كما تفعلون أنتم معنا. نوايا المغرب واضحة وتاريخه أبيض. خريطته الرسمية المعروفة تزين كل كتبه المدرسية دون اقتطاع أي جزء من الجزائر. المغرب أمضى مع الجزائر سنة 1969 معاهدة الصداقة وحسن الجوار بإفران، وتوّجها باتفاقية ترسيم الحدود الدولية سنة 1972، والتي قبل فيها رسميا بالحدود الموروثة عن الاستعمار، في رغبة صادقة لفتح صفحة جديدة.

أضفت موضحًا:

– هذا الترسيم بالذات هو ما جعل المغرب لا يتحرّك بعد أن طردت الجزائر الفلاحين المغاربة من أراضي العرجات نواحي فكيك سنة 2021. فرغم أن هذا الطرد مشؤوم ومؤلم لعشرات الأسر المغربية التي استغلت تلك الأراضي منذ عقود، إلا أن المغرب لم يتحرّك عسكريًا، ولا حتى ديبلوماسيًا بحدّة. اعتبرنا أن تلك الأراضي، وفقًا لترسيم الحدود، أصبحت تحت السيادة الجزائرية. لم نردّ على الإهانة بالتصعيد، بل فضلنا حفظ الاستقرار، لأننا نحترم الاتفاقيات الدولية.

ثم تابعت:

– لكنكم لا تحترمون تلك الاتفاقيات. فقد كانت مشروطًا بعدم دعم أي بلد لأي حركة انفصالية بالبلد الآخر، وبالتعاون في استغلال منجم غار الجبيلات قرب تندوف. ولكننا نرى عكس ذلك تمامًا اليوم. المغرب لا يهدد حدود الجزائر، لكنه يطلب التفاوض المباشر والصريح لفض النزاعات وغلق كل الملفات. هذه دعوة صادقة، عسى أن تجد آذانًا صاغية.

قال لطفي بتردد:

– لن أخفيك أن الجزائر لا تثق في المغرب، لا رسميًا ولا شعبيًا. فماضيكم التاريخي، الذي تستحضرونه دائمًا، يذكرنا بأنكم قد تطمعون في استرجاع مناطق سيطرتكم القديمة.

رفعت عيني نحو السماء، وأجبته بصدق:

– لسنا أعداء لأحد. بالعكس، نحن نستعيد ماضينا لأننا نفتخر بجذور أمتنا المغربية العريقة. فالمغرب مزيج عجيب متجانس من روافد ثقافية ظاهرها الاختلاف والنفور: روافد إفريقية وصحراوية وأندلسية، عربية وأمازيغية، إسلامية وعبرانية، متحدون حول راية واحدة ووطن واحد وملك واحد. إن تاريخنا العريق ونظام حكمنا الضارب في القدم هو ما يجعل الأمة المغربية صلبة ومتجانسة. لكننا نحاول منذ عقود أن نمرّ من ذاكرة الإمبراطورية إلى أفق الدولة-الأمة. واليوم، أظن أننا ركبنا القطار الصحيح بقيادة رؤية ملكية حكيمة. فنحن نعمل على منطق الاندماج لا التوسع، على التكامل مع جذور الإمبراطورية الشريفة القديمة في الساحل والصحراء، من مالي والنيجر إلى موريتانيا والسنغال. قوة الدول ليست في مساحتها، بل في قدرتها على بناء الجسور، لا في رفع الجدران. نحن مقتنعون أن التكامل الاقتصادي المغاربي والغرب إفريقي هو فرصة النجاح للجميع، وننتظر اليوم الذي تفيق فيه الجزائر من عقدة التاريخ الحزين إلى مشروع المستقبل الواعد. لكن في انتظار ذلك، فإننا نعمل على التكامل مع أصدقائنا في المنطقة.

قال لطفي وهو يهز رأسه:

– كلامك جميل لو صدقت النية يا أحمد، لكن هذه الحركة المغربية الاقتصادية الحثيثة في محيط الجزائر تنبئ بمؤامرة لمحاصرة الجزائر وعزلها عن محيطها. ثم لا تنسى حلفكم المشؤوم مع إسرائيل ضدنا.

ضحكت بملء فمي وقلت:

– فتحتَ لنا بابًا آخر من أبواب الخلاف الوهمي يا لطفي. فقاعات يستعملها الإعلام المغرض للتفرقة بين الشعوب. لكن لا بأس، أعدك أن أجيبك عن سؤالك هذا في الأسبوع المقبل بحول الله: هل يحيك المغرب مؤامرة ضد الجزائر؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

اتفاقية شراكة بين جامعة محمد الخامس والمركز الجهوي للاستثمار لدعم النسيج الريادي

المنشور التالي

الرباط.. توقيف متطرفة موالية لتنظيم “داعش” الإرهابي

المقالات ذات الصلة