الدكتور أحمد أزوغ: أستاذ باحث، مدير ماستر للذكاء الاصطناعي بباريس
بعد أن رسمنا، في المقالين السابقين، معالم المغرب الذي نريده في مؤسساته ومجتمعه، لابد أن نوقن أن النهضة الأخلاقية لا تتحقّق بخطابات رنّانة ولا بقوانين عادلة فقط، بل بتوازن دقيق بين مؤسسات تمارس واجبها بنزاهة، ومجتمع يؤدي أدواره بمسؤولية. وهكذا يأتي هذا الميثاق كتتويج لهذا التصوّر: تحويلٌ التشخيص والتأمّل إلى التزام واعٍ، وسلوك يومي مسؤول.
وإن كانت لكل مهنة مدوّنة سلوك مهني، ولكل إدارة دليل جودة إداري، أفلا يكون من حقنا، كمجتمع، أن نُطلق ميثاقًا أخلاقيًا جامعًا؟ ميثاقًا يبني لغة مشتركة للقيم، ويربط الضمير الفردي بالمسؤولية الجماعية، ويحوّل حسن النيّة إلى فعل متقن، يليق بالمغاربة، وبتاريخهم، وبطموحاتهم.
إن أهمية الميثاق تنبع من كونه يربط الفرد بواجبه الأخلاقي في بناء الجماعة. فإذا كان الجميع يشتكي من تأخّر التخلق، ويشير بأصبعه إلى الغير، تارة إلى المواطن وتارة إلى الدولة، فإن الحقيقة أن بداية الإصلاح لا تكون إلا بأن يتحمّل كلٌّ منا نصيبه، ويقوم بواجبه من موقعه. فبدون التزام فردي صادق، لا يمكن لأي مشروع جماعي أن يصمد أو ينجح.
هذا الميثاق لا نريد له أن يكون نصًا سلطويًا فوقيا، ولا خطابًا وعظيًا إنشائيًا، بل عهد تطوّعي صادق: بين المواطن ونفسه، بين العامل ومهنته، بين المغربي ووطنه.
نص الميثاق:
“أنا ابن(ة) هذا الوطن الحبيب، أؤمن أن قيمة المغرب لن تُصان بثرواته أو بناياته فقط، بل بتخلق أفراده، ونزاهة مؤسساته، وسموّ ضميره الجماعي.
أؤمن أن:
● أن الخدمة العمومية ليست منّة من الموظف ولا ريعًا يُرتجى، بل واجب مقدّس تجاه المواطن، ومقياس لكرامة الدولة.
● أن القضاء السريع العادل، والأمن القريب الفعّال، هما أساس المجتمع المتخلّق، وسياج الاستقرار العادل.
● أن السياسة عمل نبيل، وتكليف لا تشريف، يحمل فيه السياسي أمانة تمثيل المواطن، والسهر على المصلحة العامة.
● أن الدين خلق ومعاملة، ينطلق من واقع الناس ليهديهم برفق إلى مراتب الخير، لا وعظًا جافًا ولا أوامر جامدة.
● أن الأسرة أصل التربية، وأن القدوة أبلغ من الأوامر، وأن الحضور والصحبة أغلى من العطاء المادي.
● أن المدرسة ليست مصنع نقط، بل مشتل أمل، وجنّة الشاب التي يكبر فيها، ويفهم، ويُعبّر، دون قمع ولا إهمال.
● أن الفضاء العام مرآة أخلاق الناس، وملك مشترك يصان ولا يدنس، وأن احترامه هو أولى علامات الحضارة.
● أن الإعلام والفضاء الرقمي ليسا ركنًا لإدمان الفرجة، بل فضاءَّ للترويح الراقي، والتعبير المسؤول، والوعي المستمر.
ولأني أؤمن بذلك، ألتزم بما يلي في مجالي:
أولًا: المؤسسات
- الخدمة العمومية
أنا كموظف عمومي، ألتزم ب:
● أن أستقبل كل مواطن بلغة مهذبة ونبرة هادئة، أيا كان مظهره أو مستواه.
● أن أُبسّط الإجراءات، وأحترم الوقت والكرامة، ولا أُذلّ المرتفق في سبيل وثيقة.
● أن أعتبر عملي واجبًا وشرفًا، لا منّة أو سلطة أمارسها على الناس.
● أن أحرص على نظافة فضاء عملي، ووضوح كل معلومة تخص المرتفقين.
- القضاء والأمن
أنا كرجل قانون أو أمن، ألتزم ب:
● أن أطبّق القانون بعدل وشفافية، دون محاباة أو انتقام أو استغلال.
● أن أعامل الجميع بكرامة، وأحترم قرينة البراءة، وأخلص في حماية المجتمع من الإجرام.
● أن أُدافع عن المظلوم، وأصغي للمواطن، وأحميه دون ترهيب.
● أن أتدخل بحكمة وقوة متناسبة، وأن أحترم الإجراءات وأعجل بالتنفيذ.
- السياسة
أنا كفاعل سياسي، ألتزم ب:
● أن أقول الحقيقة في خطابي، وأَصْدُق في وعودي، وأعترف بالحق أيا كان مصدره.
● أن أقدّم المصلحة العامة على أية مصالح شخصية أو حزبية، وأن لا أترشح لمنصب إلا عن علم وجدارة.
● أن أداوم التواصل مع المواطنين لأستمع لمشاكلهم، وأستجيب لهمومهم، وأعمل على حلها.
● أن أحرص على الشفافية المالية، والنزاهة في استخدام المنصب، وأن أترفع عن أي أطماع أو ابتزاز.
- الخطاب الديني
أنا كرجل دين، ألتزم ب:
● أن أُبلّغ الدين وأقوم السلوك بالحكمة والتيسير، وأهدي إلى الصلاح بالرحمة لا بالتشديد.
● أن أشرح الأخلاق بمقاصدها ومآلاتها، مُحببًا الناس فيها لفضلها، لا فقط ترغيبًا وترهيبًا.
● أن أراعي واقع الناس ومصالحهم، وأُقدّم المقاصد والأولويات على الخلاف والجزئيات.
● أن أُنزّه المنبر عن أي توظيف سياسي أو حزبي، وأن أجعل الدين فوق كل الاصطفافات.
ثانيًا: المجتمع
- الأسرة والطفولة
أنا كأب أو أم، ألتزم ب:
● أن أكون قدوة لأبنائي في سلوكي اليومي، لا آمِرًا ناهِيًا يطلب منهم ما لا يفعله.
● أن أُحاور أبنائي بمحبة، وأُنصت إليهم باحترام، لا أكتفي بالصراخ والمواعظ.
● أن أضع قواعد واضحة تُناقَش وتُفهَم وتُحترَم، لا تُفرض بالقسوة أو بالمزاج.
● أن أعتبر التربية مشروع حياة أساسي، لا مهمة ثانوية أو لحظة انفعال عابرة.
- المدرسة والشباب
أنا كمعلم أو مربي، ألتزم ب:
● أن أُشجّع التلميذ على التفكير والتعبير والسؤال، لا الاكتفاء بالحفظ والتكرار دون فهم.
● أن أزرع حبّ التعلم في قلوب التلاميذ، وأشرح لهم الغاية منه، لا فقط الخوف من الامتحانات.
● أن أُعامل كل متعلم باحترام كامل، مهما كانت ظروفه أو نتائجه الدراسية، دون قسوة أو تبخيس.
● أن أفتح المدرسة للحوار والتعبير، وأجعلها فضاءً للإنصات، لا فقط للمراقبة والعقاب الصارم.
- الشارع والفضاء العام
أنا كمستعمل للشارع، ألتزم ب:
● أن أحترم النظام والطابور، وأراعي غيري في الصوت والمظهر والرائحة والمجال المشترك.
● أن أُحافظ على نظافة الشارع، أميط الأذى وأمتنع عن أي تخريب، كأنني أحافظ على نظافة بيتي وسيارتي.
● أن أُخاطب الناس بلغة مهذبة، وبألقاب الاحترام، وأتجنّب كل إهانة لفظية أو تصرّف جارح أو عدواني.
● أن أعتبر الملك العام مسؤولية جماعية، أُحافظ عليه وأحميه كما أحمي ممتلكات الخاصة.
- الإعلام والفضاء الرقمي
أنا كإعلامي أو صانع محتوى أو مستهلك له، ألتزم ب:
● أن لا أنشر إلا ما أتحمّل مسؤوليته أمام ربي وأهلي ومجتمعي، وألا أستغل منبري للإساءة أو التضليل.
● أن لا أشارك في أي تنمر أو إشاعة أو تفاهة، لا إعجابا ولا مشاركة، بل أدافع عن المظلوم وأشجب الإساءة.
● أن أعبّر عن رأيي باحترام، وأناقش دون تشهير أو استعلاء، وأحاور بحثا عن الحقيقة لا رغبة في هزم الآخر.
● أن أستعمل المنصّات لبناء الوعي، وتنمية الذوق، ونشر الثقافة، أدعم القنوات الهادفة وأهمل مطاردي البوز والتفاهة.”
خاتمة :
لا نريد هذا الميثاق قانونًا يُعاقَب على تركه، ولا أوامر تُفرَض من أعلى، بل نريده عهدا تطوّعيا حرا، ينبع من قناعة داخلية بأن المغرب لن يتقدّم فقط بالمشاريع المهيكلة، بل بأخلاق راسخة، وضمائر حيّة، والتزام شخصي.
نُقدّمه اليوم كخطوة أولى نحو تأسيس ثقافة مجتمعية جديدة، تجمع بين المؤسسات والمجتمع على لغة الالتزامات الواضحة. ميثاق قابل للتكييف: يمكن لكل فرد، أو إدارة، أو حيّ، أو مدرسة، أن تتبنّاه كما هو، أو تُعدّله بحسب واقعها، ما دام الهدف واحدًا: أن يلتزم الجميع كلٌّ من موقعه، فيتحقق التخلق الجماعي بالتزام الأفراد.
نأمل أن يُنشر هذا الميثاق، ويُناقش، ويظل حاضرًا في العيون والوجدان، ليوقظ فينا كل يوم هذا السؤال البسيط والعميق: هل أنا وفيٌّ بعهدي الأخلاقي مع هذا الوطن؟
وإذا كان الميثاق بداية الالتزام، فإن تخليق المجتمع يحتاج إلى وسائل تنزيل وتفعيل. وفي المقال القادم، نطرح معًا أسئلة المرحلة: كيف نُجدّد طرق التأثير الأخلاقي؟ كيف نحوّل النوايا إلى برامج ملموسة؟ وكيف نُقيم ونتابع مؤشرات التقدم الأخلاقي في واقعنا؟