هواجس مهاجر (1/2)

بقلم هيثم الكتمور: مهندس مغربي مقيم بفرنسا، اختصاصي في الجودة الصناعية، ومهتم بمواضيع الهجرة

تعتبر الهجرة ظاهرة مجتمعية قديمةً قدم الإنسان, متشعبة و معقدة بمستوى ما يحمله الإنسان من تشابكات و اختلافات و ما تحمله نسبية الزمان و المكان و الظروف التي أدت إلى الهجرة من جهة و تلك التي أدّت إلى عدم العودة بعد حين من جهة أخرى.

يقول أمين معلوف أن الهجرات قديمة كالإنسانية، و لكنه يقول أيضا أن الجذور تمنع أحيانا من النمو..

سأسأل نفسي بعض الأسئلة حول الهجرة و حول حلم العودة، و سأشارككم في حلقتين، هواجس المهاجر بانيا على هجرتي من المغرب منذ أكثر من عشرين سنة و عن معايشتي لهجرات متعددة من و إلى بلدان مختلفة، بعين تود أن تكون جامعة بين التحليل و التفسير , علها توَفَّق، دون أن أدعي قدرتي على الإجابة عن كل الأسئلة، فالهجرة في حد ذاتها بحث عن الأجوبة…

سأحاول الإجابة اليوم عن أسباب الهجرة و أسباب العودة، في حين سأناقش في مساهمة لاحقة اسباب اللاعودة و ما يُمكِّن المهاجر من تقليص آثار المسافة و البعد عن البلد و لو نسبيا…

لماذا نهاجر؟

قد يكون هذا السؤال الأصعب للإجابة خصوصا حينما يُطرح بعد سنين من الهجرة.

في بعض الحالات الجواب قد يكون سهلا إن كانت الهجرة هروبا من حرب أو نفيا لأسباب سياسية أو قضائية.

قد يكون الجواب سهلا نسبيا أيضا إن كان السبب “خبزيا” محضا (بمعنى البحث عن مدخول لا سبيل له بالبلد الأم و ليس البحث عن تحسين المدخول). لهذه الحالة يقول جبران خليل جبران أن الحنين إلى الوطن يأكل الإنسان و لكن لا يطعمه.

تلك الهجرات الأسهل و إن كان التعبير الأدق لوصفها أنها الأقل صعوبة فالجمع بين الهجرة و السهولة في نفس الجملة طباقٌ بإجماع البلاغيين و خصوصا بإجماع المهاجرين…

بعد كل هؤلاء، هناك من يهاجر لما يظنه أفضل و إن كان البقاء ممكنا. فهناك من يهاجر للبحث عن نسمات الحرية سياسيةً كانت أم تعبيرية، أو للعيش في محيط أكثر ديموقراطية، يراه أكثر انفتاحا و أقل ضغطا و ربها يراه أيضا أقل اهتماما بما لا يعنيه..

هناك من يهاجر لأن اختصاصه أو حرفته قليلة الآفاق ببلده و ربما منعدمة الآفاق أو هكذا يراها على الأقل..

هناك من يهاجر بعد زواجه في قرار يجمع بين قرار الزواج و قرار الهجرة، يرى المَهجر بنظارات رفيق أو رفيقة الحياة.

هناك من يهاجر للدراسة في بعض الأحيان لتفوقه و بحثه عن أحسن التكوينات و في بعض الأحيان لعدم تفوقه و بحثه عن اختصاصاتٍ لم يتمكن من الولوج إليها. في بعض الأحيان الدراسة بالخارج أقل تكاليفا من الدراسة ببعض المؤسسات الخاصة المغربية مثلا.

هناك من يهاجر و كفى. يهاجر لأن الصديق هاجر و ابن العم هاجر و بنت الحي هاجرت. تُرى هل هناك ما يجعله لا يهاجر؟ هذه الفئة ترى السؤال عكسيا فتسأل الآخر بتعجب: و لماذا لا أهاجر؟

الجواب عن سؤال الهجرة ليس بسيطا و ليس ساكنا بل يتغير مع الوقت و مع تغير ظروف بلد الأصل و بلد الهجرة..فإجابة المهاجر عن السؤال يزداد صعوبة بمرور الزمن خصوصا إن طالت المدة و بطُلت أحيانا أسباب الهجرية الأصلية و لذلك فالجواب عن سؤال سبب عدم العودة يكون في الغالب مغايرا، و خصوصا لحالة المغرب، عن الجواب عن سؤال سبب الهجرة.

هذا السؤال صعب حين يُطرح على المهاجر، و صعب جدا حين يَطرحه أبناء المهاجر على المهاجر نفسه و إن كان الأصعب على الإطلاق سؤال المهاجر لنفسه، يوم العيد، و حين العودة من العطل بالبلد الأم و لما يفطر عند آذان المغرب في رمضان ببلاد المهجر و هو لا زال في سيارته عائدا من العمل، و لدى الحضور للجنائز بالبلد الأصل، و حين يرى آثار الزمن على وجه أمه، و ظهر أبيه و لما يلحظ تكاثر الشيب في رأسه…تلك حرقة الهجرة تسكن المهاجر و تعيد السؤال في ظروف عدة و بمعاتبة أحيانا و بسخرية أحيانا أخرى..ربما السؤال أصعب حينما يسأله المهاجر لنفسه لأنه حينها يعلم إن كانت إجابته صريحة أم لا…أتذكر و أنا أكتب ذلك مقولة سقراط: “لا توجد إلا طريقة واحدة للهروب من الأسئلة الصعبة، و هو ألا تسألها أبدا”…

البحث عن أجوبة دائما و أبدا، تلك الهجرة الحقيقية..

لا أظن أن هناك مهاجرا لا يسأل نفسه بعض هذه الأسئلة الوجودية و التي لا تحتمل الجواب الصحيح و الخطأ فنحن أمام ظاهرة لا ثنائية، لا تحتمل الأسود و الأبيض فقط، بل تغطي كل درجات الرمادية من تلك الأقرب للسواد أحيانا لأقربها للبياض أحيانا أخرى..

تلك صعوبة الهجرة و تقلباتها. نبحث فيها عن الأجوبة و ربما نبحث عن أنفسنا كما قال الطاهر بنجلون فالهجرة ليست حلا و إنما هي بداية لرحلة شاقة من البحث عن الذات..

لماذا نعود؟

يربط البعض العودة للبلد الأم بزوال أسباب الهجرة.

نهاية حرب، دمقرطة نظام… و تلك الحالات الأسهل.

هناك من يربط العودة بنجاح الهجرة و يربط نجاح الهجرة بتكوين رأس مال محترم يبني به مشروعا و يؤكد عبر ذلك ربط الهجرة بنجاح مادي مفترض، مربوط مبدئيا بالذهاب للضفة الأخرى…يفعل ذلك له، و أحيانا لوالديه و أحيانا أخرى ليرى نظرات الإعجاب و تصله كلمات الإطناب من المتابعين و الجيران و أفراد العائلة..المهاجر جزء من الوطن و من مجتمعه الأم و يحمل بذلك تناقضاته و عيوبه معه في حقائبه…

لا يختلف الكثير أن قيم الدين و العائلة هم أكبر و أهم الأسباب التي تجر بعض المهاجرين، و قد تجر بعضهم و تؤرق البعض الآخر، نحو حلم العودة.

سماع الآذان، الاحتفالية برمضان و الأعياد، القرب من الوالدين و الإخوة و الأصدقاء، و غيرها من بعض التفاصيل الهامة التي يحلم بها جزء كبير من المهاجرين. كل تلك أسباب تجر المهاجر للعودة و كل يضعها في موضع أهمية و يقارنها بما قد “يخسر”إن عاد في منطق رابح/خاسر فيه يصعب التخمين و الحساب.. و ما أصعب الحساب في مثل هذه المواضيع…يقول ألبرت أينشتاين, و هو من عاش هجرة قسرية من ألمانيا للولايات المتحدة الأمريكية:”كل ما يُحسب ليس له وزن بالضرورة، و كل ما له وزن، لا يُحسب أو يُعد بالضرورة”.

أحد أهم ما يشجع على العودة اليوم هو كل هذا المناخ المعادي للأجانب و المعادي للإسلام خصوصا، رغم تفاوت الوضعية بحسب بلدان الاستقرار و أحيانا مدن الاستقرار و الوضعية الاجتماعية ببلدان المهجر…فالأجواء ببعض دول الغرب على الخصوص أصبحت لا تُطاق بتحامل الصحافة و بعض التيارات السياسية على المسلمين و على الإسلام، فإن اندمجوا و ظهروا للعيان فذلك نوع من فرض الأمر الواقع و التوق نحو أسلمة المجتمعات المستقبِلة قبل الهجوم الكاسح الآتٍ يوما، و إن تراجعوا و انكمشوا فذلك نوع من التقية و من الطائفية. و هذه الثنائية لم تعد مقبولة لدى أبناء و أحفاد المهاجرين…

كما أن فرص العمل و الاستثمار ببلدان الأصل، و المغرب مثال على ذلك من جهة، و العبئ الضريبي ببلدان الاستقرار من جهة أخرى، أصبحت كلها أسباب معقولة للاستقرار من جديد في بلدان الأصل..

أصبح يُلاحَظ لكل هذه الأسباب و للمشاكل المرتبطة بالاندماج ببلدان المهجر، أن النقاش حول العودة و أسبابها أكثر حضورا لدى أبناء المهاجرين و أحفادهم أحياناً، من المهاجرين أنفسهم.

العودة و أحلامها توَرَّث أحيانا..و كم من أبناء و أحفاد مهاجرين تجدهم اليوم أكثر اهتماما و تدبرا لأمر العودة مما كان عليه آباؤهم و أجدادهم و هم المهاجرون الأصليون..و إن كانت كلمة العودة لا تخصهم إلا إذا اعتبرناهم قد هاجروا رمزيا…فالمهاجر عموما يسهر على نقل قيم بلده الأصل لأبنائه.

هؤلاء المهاجرون بالوراثة في حرب دائما مع واقعهم و مع الأحكام المسبقة في أوطان الميلاد أو الاستقبال…و ما أصعب هذه النوعية من الحروب فكما قال آنشتاين إنه “أسهل أن تدمر ذَرَّةً من أن تقضي على حكم مسبق..”

لمناقشة باقي الأسئلة أضرب لكم موعدا في المقال المقبل…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

من أجل صحافة حرة ومسؤولة: ندوة بالرباط تدعو لإصلاح شامل ومواكبة رقمية للمهنة

المنشور التالي

قرعة حاسمة جديدة تحدد ملامح أمم إفريقيا U-20 في مصر

المقالات ذات الصلة