ما يجري اليوم في البرلمان لا يشبه نقاشا سياسيا عاديا، بل أقرب إلى معركة مفتوحة على جثة قطاع دوائي يحتضر منذ عقود. كل طرف يرفع شعار الشفافية، لكن كل طرف يخشى شفافية الآخر. والحقيقة أن المغاربة لم يعودوا معنيين بمن يصرخ أكثر داخل قبة المؤسسة التشريعية، بقدر ما يريدون معرفة جواب واحد: من الجهة التي ليس في صالحها تشكيل لجنة تقصي الحقائق ولماذا؟ فحين يتحول الحديث من صفقات الأدوية إلى حالة طوارئ سياسية، ندرك أن الملف أكبر من مجرد طلبات عروض.. وأخطر من أن يترك للأغلبية والمعارضة وحدهما.
الحكومة، التي يفترض أن تكون أول المرحبين بالرقابة، اختارت الدفاع إلى حد الإنكار. أغلبيتها تقدم خطابا موحدا بشكل يثير الشبهة أكثر مما يبعث على الاطمئنان: الملف مضخم، الحديث عنه سياسي، والوقت غير مناسب. لكن متى كان كشف الحقائق يحتاج إلى توقيت انتخابي؟ ولماذا تتحول مطالب التحقيق إلى تهديد؟ كل هذا يوحي بأن فتح خزائن هذا القطاع سيخرج ما لا ترغب الحكومة في رؤيته، أو على الأقل ما لا ترغب في أن يراه الرأي العام.. والنتيجة: سد الباب أمام لجنة تقصي والتي هي في الأصل آلية دستورية وحق أصيل للبرلمان.
أما المعارضة، التي نصبت نفسها حارسة للنزاهة، فهي بدورها تحتاج إلى ما يثبت أنها تتحرك بدافع المبدأ لا بدافع التكتيك. صحيح أن تصريحات عبد الله بوانو قد أعادت الملف إلى الواجهة، وكشفت عن شبهات تستحق التحقيق، لكن هل المعارضة فعلا خارج دائرة نفوذ لوبيات الأدوية؟ وهل تريد لجنة تقصي لكشف الحقيقة أم لتسجيل نقاط سياسية في سباق 2026؟ أسئلة مشروعة في ظل سوق دوائي تعشش فيه المصالح المتقاطعة، وتتحرك داخله رؤوس أموال تعرف كيف توظف الخصومات الحزبية لصالحها.
الحرب الدائرة اليوم ليست حرب أرقام ولا حرب تأويلات، بل حرب على الحقيقة نفسها. الأغلبية تخشى الوقوع في دائرة الشبهات، والمعارضة تخشى أن تضيع لحظة سياسية ثمينة، ولوبيات الدواء تريد استمرار الضباب الكثيف الذي حمى مصالحها لعقود. لكن ما لا يقال هو أخطر مما يقال: إن منع لجنة تقصي الحقائق هو رسالة واضحة بأن هناك من يخشى الضوء. فهل نحن أمام حكومة تغرق في تضارب المصالح؟ أم أمام معارضة تحتمي بشعارات الرقابة وهي تلمح للوبيات من خلف الستار؟ أم أمام منظومة كاملة لا تريد للحقيقة أن تكشف لأنها ببساطة.. أكبر من الجميع؟