نسي، ينسى، نسياناً

بقلم هيثم الكتمور: مهندس مغربي مقيم بفرنسا، اختصاصي في الجودة الصناعية، ومهتم بمواضيع الهجرة

نَ سِ يَ، فعل ماض ناقص، معتل في آخره.
نَ سِ يَ الشيءَ أي لم يتذكَّره، تجاوزه أو غفل عنه.
أن نُعرِّف النسيان بعدم التذكر دليل على أن الأصل هو أن نتذكر الأمور و الأشياء و الأشخاص، و أن الاستثناء هو أن نغفل عنها و ننساها. تماما كما أن الصحة هي الأصل و العِلّة و المرض الاستثناء، كذلك شاء الله أن تسير الأمور..

نَ سِ يَ، فعل ثلاثي، تعريفه في لسان العرب، تحفة مناجد لغة الضاد، بأنه من باب النُّسْء والنِّسيان، ويأتي بمعنى:

  • “نسي الشيءَ”: تركه من غير علم به، وضده “ذكره”.
  • “نسي الإنسانُ الشيءَ”: ذَهَب عنه علمه به بعد أن كان يعلمه.

نَ سِ يَ، فعل ماض، و الفعل الماضي يفيد بأن الفعل فُعِل و وانتهى و بأن الحدث ولى و قُضِي.
الذاكرة هي الأصل و هي الوضع العادي للأمور و للحياة. و بالتالي فإن نسي الإنسان فقد تذكر بعد ذلك و رجعت الأمور لنصابها و لو بعد حين…
ذلك النسيان نعمة، فلعلّه ما يساعد على تجاوز الأزمات و يمنع عن الحقد و الكره أو على الأقل يساعد من يريد التجاوز، على المسامحة، و العفو و يجرنا مكرهين لطمأنينة من لا يتذكر كل التفاصيل التي لا داعي أحيانا لتذكرها..

ينسى، فعل مضارع، و المضارع قد يفيد الفعل الدائم أحيانا، المستمر أحيانا أخرى، و قد يعني ما يحدث اليوم و ما قد يحدث غدا و قد يعني ما سيحدث بالتأكيد غدا، كأن نقول بأن الله يغفر الذنوب جميعا…
إن كان فعْلُ “نَسِيَ” نعمةً. فإن فِعْلَ “ينسى”، ابتلاءٌ و يا له من ابتلاء..ابتلاء لمن ينسى و ابتلاء لمن يعايش من ينسى.

ينسى، فعل مضارع، إن تكرر و دام و اتصل، فلربما هو مرض النسيان. ابتلاء من الله أولا و مرض دماغي ثانيا.
كم وددت الكتابة عن هذا المرض و أنا أعيشه منذ سنوات في أعز من أحب و ابتليت به، مع أسرتي الصغيرة و عائلتي الكبيرة، في أمّي…شافاها الله و عافاها هي و سائر المرضى..

تَنسى، تَنسى أمي المكان و الزمان، قد تنساني أحيانا، و قد تنسى كل شيء أحياناً..

ينسى، فعل مضارع يفيد الاستمرار، و مهما وصل النسيان لدى المريض، يبقى جزء من الذاكرة حيّاً على قِلَّته، يعبر عنه المريض أحيانا بابتسامة و أحيانا بنظرة و أحيانا بقبلة…و فرضا أن النسيان طفح و استفحل..فحتى لو نستني والدتي، فأنا لم أنسها و لن أنساها…

لن أنسى تضحياتها، حبَّها و مجهوداتها…لن أنسى القيم التي ربتني عليها و لن أنسى كل ما زرعته في و في أبنائي…لن أنسى تضحياتها كزوجة و كأم و كرَبَّة بيت..لن أنسى و لن ينسى تلاميذها مجهوداتها و مساعداتها و شرحها كأستاذة و كمربية فاضلة..

نسياناً
و النسيان المرضي أو مرض الزهايمر مرض خبيث، عافانا الله و إياكم، أشارككم هنا تجربتي كابن شخص مصاب ساير المرض منذ بداياته.
لن ألبس وزرة الطبيب فلست كُفئا لذلك و لكني سأشارككم مجموعة من الأفكار حول ما يستدعي المرض من أهل المريض، من المواطنين كافة و من الدولة كطرف ثالث..

هذا المرض يشكل تحديا مهما للعائلة المغربية و للمغرب في السنوات المقبلة..فأرقامه في تزايد لأسباب عدة منها المرتبط بتحسن عمر الوفاة بالمغرب، بتحسن التشخيص و بالعديد من الأمور الأخرى…كما أن تطور التغذية، و قلة الرياضة للأشخاص المتقدمين في السن، و التوجه نحو نوع من الوحدة و قلة الانشغال الذهني بعد التقاعد تبدو عوامل تساعد المرض…بالإضافة إلى عدم الاهتمام بالصحة النفسية من جهة و بحضور نوع من التفريغ الداخلي للمشاكل من جهة أخرى. كل هذا يؤسس بيئة حاضنة للمرض…

فأما لذوي المرضى فأنصحكم و إياي ب:
1- التشخيص الجيد للمرض عند أهل الاختصاص، و التبكير به. فهناك العديد من الأمراض الدماغية التي تحتاج طرق علاج و مواكبة مختلفة و التشخيص السيء يفاقم الوضع و يضيع الوقت.
2- القبول بأمر الله، فأمراض الشيخوخة الدماغية، سواء تعلق الأمر بالزهايمر أو بالباركنسون أو بكل أنواع démences، صعبة و كثيرة التأثير على المريض و على أهله. معظم العلاجات سواء كانت نفسية، حركية، طبيعية أو بالأدوية، تُبطئ تطور المرض و لا تعالجه. القبول بالمرض إذن جزء مهم إن لم يكن الأهم.
3- فهم المرض، و هو مايؤدي بعد القبول به إلى حسن التصرف مع المريض. فهو لا يُعاتب على شيء لأنه لم يختر المرض و لأن تصرفاته و إن بدت إرادية فهي عكس ذلك…فإن ألح في سؤال فلا بأس و إن أضاع المفاتيح فلا بأس و إن أخطأ عند المناداة على شخص فلا بأس…فهم المرض يساعد على التركيز عما لم يفقده المريض بعد و تجاوز ما فقده، فلا حسرة ستعيد ما فُقِد…
4- مشاركة أوقات متعة مع المريض. فلا يجب أن يصبح كل الوقت الممضي مع المريض، رعاية للمرض، و إعطاءً للدواء و مساعدة يومية حتى يُعطى المريض حقه من الحب و من الضحك و من الإحساس، فهي أمراض تصيب الدماغ و الذاكرة و الروح المعنوية و الجسد و ..و .. و
و لكنها حتما لا تصيب الإحساس..

فأما لمن لم يُبتلوا بمرض كهذا في ذويهم…
1- التفهم و مد يد المساعدة. هذه الأنواع من الأمراض تحتاج لروح معنوية عالية. ابتسامتك في مصعد، اقتراحك مساعدة، عدم إحراج المريض أو ذويه إن رأيت تصرفا ليس في محله أو سمعت جملة ينقصها المعنى أو الترتيب…، لا تنس أن المؤمن مصاب و أن مساعدتك البسيطة لها وزن كبير..
2- إعطاء النِّعَم حقها، فكم من شيء نعرف قيمته حين نفتقده. حينما تكلم أمك و تجيبك و تكلمك في الهاتف فتلك نعمة، و حين تراك و تعرفك، فتلك نعمة أخرى. حين تستيقظ قي الصباح و تعرف من أنت و أين أنت قتلك نعمة. نعم الله كثيرة و نسبح في بحر منها و نحن لا نعلم أو لربما ننسى أو نغفل عنها…فاستغلوا الفرص ما استطعتم لحمد الله و التمتع بمن تحبون ما دمتم قادرين على ذلك…

فأما للدولة..
1- إعطاء الأولوية لموضوع أمراض الشيخوخة بتأهيل المراكز الخاصة و المؤهلات البشرية و تكوينها و التفكير في صيغة رسمية لدور “المعين”.
2- الاهتمام باختصاص أمراض الشيخوخة (gériatrie) و تكوينه و ربطه بخدمة عامة تُعتبر حقا لمواطن أفنى عمره في خدمة بلده و استحق بذلك الدعم الطبي في محنة يحتاج فيها المواطن لدولته.
3- الاهتمام بالأمراض الدماغية، النفسية و العقلية التي قد ترتبط في تشعب معقد أحيانا و تختلط فيها الأحكام المسبقة ببعض من الجهل و ببعض من الخلط فلا نعرف هذه من تلك. هذا الاهتمام يجب أن تصحبه حملة إعلامية توعوية للقضاء على صورة سلبية للمريض عوض أن تكون صورة سلبية عن المرض، و التعريف بطرق المواكبة و سبل تيسير الأمور عن المريض و أهله.
4- التفكير في مقاربة شمولية للحماية من هذه الأمراض ما أمكن، و معالجتها بأخذ الاعتبار التحولات المجتمعية و الأسس القيمية التي نود أن تستمر أسرنا في البناء عليها.

فعلا، نسي، ينسى، نسيانا..
تصريف هذا الفعل له معنى آخر لمن تذوق مرارة المرض. و لكن و لأن مع العسر يسرا، فكل وضع يسمح بإنارة أجمل ما في الإنسان.
فقد رأيت درسا جميلا في حب التعليم فقد تنسى أمي كل شيء عدا كلمة تلميذ و تلميذة و تمارين و درس..عدا بعض آيات الذكر الحكيم، أو مديح رسوله الكريم…
و رأيت درسا أجمل في الحياة و في الحب و في التقدير من مواكبة أبي لحالة أمي، رغم التعب و رغم الصعوبة و رغم كل شيء…معدن الإنسان باقٍ و صافٍ…
و رأيت دروسا أخرى من أفراد العائلة ممن يترك أهله و يأتي ليساعد و يريح أبي أحيانا و يصحبه أحيانا أخرى..
و رأيت دروسا أخرى من الأصدقاء و الأحباب…

يُمَكِّن هذا المرض من معرفة معادن الناس و مدى حبهم للمريض و أهله فنرى الكثير من التقدير و المساعدة و نرى أيضا بعضا من نكران الجميل و من التعامل السلبي.
نذكر الأول و ننسى إراديا الثاني..

فعلا، نسي، ينسى، نسيانا..
فأرجو الا تنسوا مرضى الزهايمر من دعائكم و أرجو أن تكون مساهمتي هاته على خصوصيتها، مشاركة متواضعة لتجربة شخصية جدا ، علها تجد الصدى لدى المرضى و أهاليهم، و لدى سائر المواطنين من جهة، و تجد آذانا صاغية لدى سلطاتنا صاحبة القرار السياسي و الاختصاص الطبي…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

برشلونة يهزم ريال مدريد ويتوج بكأس ملك إسبانيا للمرة 32 في تاريخه

المنشور التالي

مشروع “جواز الشباب”…اتفاقية شراكة بين وزارة الثقافة و بنك المغرب

المقالات ذات الصلة