في مشهد إنساني بالغ الدلالة، حضر ناصر الزفزافي جنازة والده، رحمه الله، بعدما هيأت الدولة المغربية الظروف الملائمة لذلك في أجواء تصون كرامته. وفي المقابل، اختار الزفزافي أن يرد على هذه المبادرة بكلمة مقتضبة لكنها عميقة، اختزلت الكثير من المعاني وأوصلت رسائل بالغة الأثر. لم تكن مجرد كلمات عزاء، بل شهادة سياسية رصينة وصرخة وطنية جامعة، قالت ما عجزت عنه بيانات مطولة وخطابات مطنبة.
بصوت هادئ ونبرة واثقة، تحدث ناصر الزفزافي بنضج واضح ومسؤولية كبيرة، راسماً صورة مختلفة عن تلك التي حاول البعض إلصاقها به. ففي حضرة الفقد، وجّه رسائل متعددة، لعل أبرزها تلك التي توجهت إلى من يراهنون على تمزيق وحدة المغاربة: “لا شيء يسمو فوق الوطن”. والوطن، في فهمه، ليس الريف وحده، بل كل شبر من هذه الأرض، شمالاً وجنوباً، شرقاً وصحراء. لقد كان كلامه صريحاً وعميقاً، وكاد أن يذهب أبعد لولا مقام العزاء الذي فرض إيقاعه.
هذا الموقف يطرح سؤالاً مشروعاً: ما الذي يبرر استمرار اعتقال شاب استهلك سنوات طويلة من عمره خلف القضبان، وقد أبان اليوم عن وعي سياسي وطني جامع؟ لا مبرر مقنع لاستمرار هذه المأساة. بل إن الإبقاء على الملف مفتوحاً لا يخدم سوى من يتغذون على معاناة المنطقة، في حين أن اللحظة التاريخية تنطق بوضوح: آن الأوان لإغلاق هذا الجرح والعبور نحو مصالحة وطنية راسخة، عنوانها الطمأنينة الاجتماعية واستعادة الثقة.
لقد شكّل العفو الملكي دائماً تعبيراً عن حكمة الدولة المغربية، وضمانة لترسيخ الوحدة الوطنية، وصمام أمان يعيد الثقة بين المجتمع ومؤسساته. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، يبدو أن جميع المؤشرات تصب في اتجاه واحد: التفاتة ملكية تنهي معاناة المعتقلين في ملف الحسيمة، وتعيد الأمل إلى آلاف الأسر، وتؤسس لبداية جديدة قوامها التنمية والتلاحم الوطني.
رحل والد الزفزافي، لكن جنازته تحولت إلى محطة فارقة أعادت النقاش إلى جوهره: وطن يتسع للجميع، ومغرب قادر على تضميد جراحه. إن أعظم تكريم لروح الفقيد هو أن تتحول لحظة الوداع هذه إلى نقطة انطلاق نحو أفق جديد، يطوي سنوات من الألم، ويفتح صفحة مشرقة عنوانها الحرية والوحدة والأمل.