بقلم ذ.كمال كحلي: إستشاري ومكون في الرقمنة والذكاء الإصطناعي
مع الزخم المتسارع الذي تشهده حياتنا اليومية بفعل التكنولوجيا، أصبح من الصعب تجاهل الحضور الفاعل للتطبيقات الرقمية وأنظمة الذكاء الاصطناعي، لم يعد الأمر مقتصرًا على استخدام عابر، بل أصبحنا نعيش في بيئة رقمية على الدوام، نحتك بها صباح مساء، بل أصبحت عند العديد منا أسلوب حياة.
هذا “المرور الناعم” نحو الرقمنة العميقة، لم يأتِ بإنذار معلوم، بل تسلّل بهدوء إلى تفاصيلنا اليومية، حتى أصبح طبيعيًا أن نطلب من روبوت نصي أن يكتب، ومن تطبيق ذكي أن يقترح، ومن خوارزمية أن تنتقي لنا ما نقرأ ونشاهد. وفي مقابل هذا التحوّل، يظهر شعور خفي – وأحيانًا واضح – بأن شيئًا ما يتغيّر داخلنا: في أنماط التنشئة، في شكل العلاقات، وفي طريقة بناء الوعي،نحن لم نعتد على هذا النمط في العهد القريب، حين كان الذكاء الاصطناعي مفهومًا نظريًا، وكانت الرقمنة متواضعة ومحدودة في آثارها.
وفي محاولة لفهم هذا التحول الرقمي وتأثيره على التنشئة والسلوك، سبق وأن كتبت عدة مقالات تناولت جوانب مختلفة من الموضوع، منها:
التحول الرقمي ورهان القيم، الذي يتناول البُعد القيميوالاجتماعي في استخدام التكنولوجيا الحديثة؛ ذكاءChatGPT وخوارزميات العقل الإنساني، حيث استعرضتمفاهيم الذكاء الإصطناعي وطرق اشتغاله وبعض فاعليه؛الفضاء الرقمي بين التفاهة والمسؤولية ورهان المعالجة، الذي يطرح تساؤلات حول أثر المحتوى الرقمي على وعي الأفراد والمجتمعات؛ نحو تنظيم دولي متكامل للذكاء الاصطناعي: الاتحاد الأوروبي يضع الأسس القانونية الجديدة، الذي يستعرض الإطار القانوني الجديد للذكاء الاصطناعي على المستوى الدولي، مع التركيز على قانون الاتحاد الأوروبي.
إن التطرق لهذه المفاهيم والمستجدات القانونية، وفهم أثر المحتوى الرقمي، ومع استمرار الرصد والتفكير، جعلني أنتبه إلى دور التقنيات التكنولوجية نفسها ومحاولة ملامسة أثرها المباشر في تشكيل سلوكياتنا وأنماط تفكيرنا، وهنا تبرز أهمية نظرية الإعلامي والفيلسوف مارشال ماكلوهان، الذي عرف الوسيط في كتابه Understanding Media (1964) بأنه “امتداد للإنسان” (The medium is an extension of man)، مؤكدًا أن الوسيط ليس مجرد قناة لنقل المعلومات، بل أداة تغير طريقة تفاعلنا مع العالم وتنظيم حياتنا. ومن أشهر مقولاته أيضًا: “الوسيط هو الرسالة“ (The medium is the message)، أي أن طبيعة الوسيط نفسه تؤثر على المجتمعات والوعي الإنساني بنفس قدر أو أكثر من تأثير المحتوى الذي ينقله.
لقد شهدت المجتمعات والأفراد عبر الزمن تغيرات متتالية في سياق سيرورتها، تتداخل فيها الوسائط التقنية والتكنولوجية التي شكلت بيئات فكرية وسلوكية جديدة، فالوسائط التكنولوجية، من الكتابة إلى الطباعة ثم الآلة البخارية ووسائل الإعلام الحديثة والبيئة الرقمية اليوم، لا تنقل فقط المعلومات، بل تعيد تشكيل الطريقة التي نفكر ونتصرف بها. وهذا التوجه يدعم فكرة أن الذكاء الاصطناعي والبيئة الرقمية المعاصرة ليست مجرد أدوات، بل عوامل تغيّر عميقة في تكوين الإنسان الحديث.
بدايةً من اختراع الكتابة بدل الشفاهة التي مهدت لنقل المعرفة عبر الأجيال، مرورًا بظهور الطباعة (ثورة غوتنبرغ) التي وسعت انتشار المعرفة بشكل غير مسبوق، فخلقت ثورة معرفية وأدت إلى تغيير في أنماط التعلم.
ثم جاءت الثورة الصناعية مع اختراع الآلة البخارية، والتي لم تكن مجرد أداة جديدة، بل كما يشير مارشال ماكلوهان، غيّرت جذريًا “البيئة” التي يعيش فيها الإنسان، وليس فقط آلية الإنتاج. فالآلة البخارية أعادت تنظيم العمل، المكان، والزمن: فقبلها كانت الحياة مرتبطة بالمكان والزمن الطبيعي كالحياة الزراعية والعيش في القرى، لكن مع ظهورها صار بالإمكان العمل في المصانع داخل المدن، وانتقلت المجتمعات من نمط زراعي إلى صناعي. أصبح الوقت مرتبطًا بجدول المصنع، وانتقلت العلاقات الاجتماعية إلى شكل جديد مع ظهور المدن الكبرى وزيادة التنقل، مما أدى إلى تحولات عميقة في تفكير الإنسان وسلوكه.
مع تقدم الزمن، دخلت المجتمعات في عصر الصحافة ووسائل الإعلام الجماهيرية، مثل التلفاز، التي صنعت بيئة إعلامية جديدة تركز على البث الجماعي للمحتوى، مما أثر في تشكيل الرأي العام والهوية الثقافية، لكنه في الوقت ذاته أعاد الإنسان إلى حالة تلقي سلبي أكثر، معتمدًا على سرديات وأطر إعلامية محددة.
وفي العقد الأخير من القرن العشرين، انطلق عصر الإنترنت، الذي قلب هذه الديناميكيات رأسًا على عقب، ليخلق بيئة تواصلية تفاعلية تمكّن الإنسان من أن يصبح مشاركًا فاعلًا في خلق المحتوى وتبادله. لكن، كما يوضح نيكولاس كار في كتابه السطحيون، فإن هذا التحول الرقمي لم يأتِ دون ثمن؛ إذ أدى إلى إضعاف القدرة على التركيز والتأمل العميق، وانتشار سلوكيات القراءة السريعة والمشتتة، مما يعكس تأثير الوسيط الرقمي على بنية التفكير والسلوك الفردي والجماعي.
يمكننا إذًا أن نرى كيف أن كل وسيط من هذه الوسائط، من الكتابة مرورًا بالآلة البخارية والطباعة وصولًا إلى الإنترنت، لم يكن مجرد أداة، بل كان بمثابة قوة تغييرية تؤثر في وعينا وسلوكنا. وفي ظل البيئة الرقمية الحديثة والذكاء الاصطناعي، تستمر هذه السيرورة التاريخية، حيث تتحول الوسائط إلى فاعلين ذكيين يوجّهون خياراتنا ويعيدون تشكيل التنشئة الاجتماعية، مما يجعلنا أمام تحدٍ كبير لفهم كيف يُعاد تشكيل الإنسان في هذا العالم المتغير.
لقد أصبحت التنشئة، التي طالما ارتبطت بالأسرة والمدرسة والمؤسسات الاجتماعية، تُعاد اليوم برمجتها في بيئة رقمية تهيمن عليها الخوارزميات والمنصات الذكية.
فالأطفال، الذين كانوا يتلقّون القيم والتمثلات من الكبار عبر الحكي المباشر والتفاعل الحي، صاروا يكوّنون وعيهم اليومي من تطبيقات وتسجيلات مرئية قصيرة، ويعيدون تشكيل تصوراتهم من خلال محتوى مختار مسبقًا لا يعبّر بالضرورة عن الواقع، بل عن ما تريده الخوارزميات أن يُرى ويُستهلك. وفي هذا السياق، يلفت الكاتب الأمريكي نيكولاس كار (Nicholas Carr)، في كتابه “السطحيون: ما الذي يفعله الإنترنت بأدمغتنا؟“ (The Shallows: What the Internet Is Doing to Our Brains, 2010)، إلى أن الإنترنت لا يغير فقط ماذا نعرف، بل كيف نعرف، وأن “الدماغ يعيد تشكيل نفسه بناءً على الأدوات التي يستخدمها”، حيث تؤدي بيئة الشاشات إلى نمط من التفكير المتقطع، والقراءة السطحية، والاستجابة السريعة، مقابل تراجع التفكير التأملي والربط المعرفي العميق.
هذا التحول امتدّ ليطال العلاقات الأسرية والاجتماعية، إذ أصبحت المنصات الرقمية تلعب دور “البيت الرمزي الجديد”، حيث يجتمع الأفراد تحت سقف واحد، لكن كلٌّ في عزلة رقمية تامة، يتفاعل مع عالمه الخاص، ويُدير حواراته من خلف الشاشة. وقد استُبدلت طقوس التواصل المباشر بعادات رقمية جديدة كالإعجاب والمشاركة والتعليق السريع، وهي مظاهر تفاعلية تفتقر إلى العمق الوجداني، وتُفكك روابط الحوار الحقيقي بين أفراد الأسرة. التحول الرقمي ورهان القيم
كما أصبحت منصات الألعاب الإلكترونية ساحة اللعب الرئيسية بين الإخوة وأبناء العائلة، لكنها تُمارَس في غرف منفصلة، في حالة من الانزواء الرقمي، حيث يعيشون لحظات من التوتر أو الفرح الافتراضي، ويتأثرون بانفعالات مستمدة من شخصيات رمزية (avatars)، في الوقت الذي يملكون فيه علاقات واقعية أغنى وأقرب، لكنها تُهمل لصالح فضاءات خيالية لا تتجاوز حدود الشاشة.
وإلى جانب ذلك، ظهرت ظاهرة اليقظة الرقمية الدائمة، حيث أصبح الأفراد – صغارًا وكبارًا – يعيشون في حالة تأهّب مستمر، يتجاوبون تلقائيًا مع رنّات التطبيقات وإشعارات الأجهزة، كما لو أن حدثًا مهمًا بانتظارهم دائمًا. يشير نيكولاس كار في كتابهإلى أن هذه الحالة من التشتت والانتباه الجزئي الدائم تُعيد تشكيل أدمغتنا لتكون مهيّأة للرد السريع، لا للتفكير العميق، ويقول “لقد أصبحنا نعيش اللحظة لا كما نختارها، بل كما تفرضها علينا الخوارزميات“ فبدل أن تكون التكنولوجيا وسيلة للتحكم، أصبحت في كثير من الأحيان من يتحكم في الإيقاع النفسي والاجتماعي لحياتنا اليومية.
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تقنية في خلفية المشهد الرقمي، بل أصبح فاعلًا مباشرًا ومؤثرًا في تشكيل الوعي والسلوك والتنشئة. فالخوارزميات اليوم لا تنتظر أن نطلب، بل تقترح وتوجّه وتُفلتر العالم من حولنا وفقًا لأنماط الاستخدام والتفضيلات السابقة. أصبحنا نقرأ ما يُقترَح، لا ما نختار، ونشاهد ما يُدفع لنا على الصفحات الأولى، لا ما نبحث عنه بعمق، وكأن الذكاء الاصطناعي بات يمسك بخيوط اهتماماتنا ويعيد هندستها في كل تفاعل.
تطبيقات مثل ChatGPT أو محركات التوصية في يوتيوب ونتفليكس وفيسبوك وغيرها، لم تعد تقدم لنا مجرد محتوى، بل تصمم محيطًا معرفيًا وشعوريًا كاملاً نعيش داخله، بل وتُطوّع تنشئتنا نفسها من خلال ما تعرضه وتخفيه، ما تعزّزه وما تهمّشه. لقد تحوّلت هذه الوسائط من مجرد ناقل محايد إلى شريك في التربية والتأطير والتمثُّل.
وكما أشار نيكولاس كار في كتابه “السطحيون: ما الذي يفعله الإنترنت بأدمغتنا؟“ (The Shallows: What the Internet Is Doing to Our Brains, 2010):
“نحن نسمح لأنفسنا بأن نُقاد عبر مسارات اختارتها لنا شبكات ذكية، ونظن أننا نمارس الحرية، في حين أننا ننجرف داخل تيار تفاعلي لا نملك التحكم الحقيقي في اتجاهه.”
في البيئة الرقمية المعاصرة، لم تعد التنشئة الاجتماعية تُمارَس في الفضاء الواقعي وحده، بل انتقلت تدريجيًا إلى فضاءات افتراضية تؤطرها الخوارزميات وتُفعّلها أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على تحليل السلوك وتوجيه الانتباه. تعتمد المنصات الكبرى – مثل يوتيوب، تيك توك، إنستغرام، وتطبيقات الألعاب الجماعية – على خوارزميات التوصية (Recommendation Algorithms) التي تُعيد ترتيب المحتوى بناءً على تفضيلات المستخدم، وتُنتج بذلك بيئة رقمية تُمارس فيها التنشئة بشكل غير مرئي لكنه فعّال.
وتتغذى هذه الخوارزميات على تحليل البيانات الضخمة(Big Data Analysis)، حيث تُجمع ملايين المعطيات من التفاعل، الوقت المستغرق، الكلمات المفتاحية، وأنماط السلوك، ليُعاد صياغة التجربة الرقمية بطريقة شخصية، تُوجّه كل فرد بحسب بصمته الرقمية الخاصة.
في هذا السياق، أصبحت المجموعات الرقمية فضاءات جديدة للانتماء، يعيد من خلالها الأفراد – خصوصًا الأطفال والشباب – بناء ذواتهم داخل دوائر تفاعلية تُحدّد فيها القيم والتمثّلات عبر أنظمة التحفيز والتقدير، مثل: الجوائز الرقمية (Badges)، نقاط الإنجاز (XP – Experience Points)، تصنيفات الأداء (Leaderboards)،العملات الافتراضية (Virtual Currencies)، المهام اليومية أو التحديات المتكررة (Daily Quests)، كما نراها في بيئات ألعاب شهيرة مثل RobloxوFortnite، حيث يُكافأ المستخدم على الاستمرارية والمشاركة، ما يعزز الاعتياد والانخراط العاطفي والسلوكي في المحيط الرقمي، بل إن “الأفاتار” (Avatar) – أي الشخصية الرقمية التمثيلية التي يختارها المستخدم – باتت تُعبّر عن هويته الرقمية أكثر مما تعكس واقعه المادي، بما تحمله من رموز وحركات وأزياء مخصصة تعبّر عن الشخصية المختارة.
تُيسّر هذه المنصات أيضًا الانخراط من خلال الدعم اللغوي التلقائي، وخيارات التفاعل متعدد الوسائط، سواء عبر الكتابة أو الصوت أو الرموز التعبيرية، ما يُقلل من الحواجز المعرفية، ويفتح المجال أمام فئات عمرية ولغوية متعددة للمشاركة النشطة. كما أن انتشار تقنيات تحويل الصوت إلى نص(Speech-to-Text)، أو العكس، أسهم في تعميق حالة الحضور الرقمي المتواصل، واليقظة شبه الدائمة.
وبذلك، لم تعد الوسائط الرقمية مجرد أدوات، بل أصبحت بيئات تربوية ذكية، تنشئ مستخدميها عبر أنظمة تحفيز رقمية دقيقة، وسلاسل تغذية راجعة فورية، وتصميمات تكنولوجية تهدف إلى الاندماج المستمر والبقاء المطوّل، مما يجعلها شريكًا خفيًا لكن مؤثرًا في عملية التنشئة الاجتماعية في عصرنا الحالي.
إن ما طُرح في هذا المقال لا يُمثّل موقفًا رافضا للرقمنة والذكاءالاصطناعي، ولا هو انتقاص من المستجدات التكنولوجية التي شكّلت جزءًا جوهريًا من تحولات هذا العصر، بل هو محاولة لفهم التحولات ودور الفاعل الرقمي فيها. فالبيئة الرقمية، بما تحمله من إمكانيات هائلة، ليست كيانًا منفصلًا عن الإنسان، بل هي امتداد طبيعي لإبداعه ورغبته في التطوير، كما أشار المفكر الكندي مارشال ماكلوهان حين اعتبر أن “الوسيط هو الرسالة“، وأن الوسائط ليست مجرد أدوات ناقلة، بل قوى فاعلة تُعيد تشكيل إدراكنا للعالم وتنظيم حياتنا.
لكن هذا الامتداد لا يجب أن يتم في ظل سيولة رقمية وفي بيئة رقمية سائلة (مصطلح سيولة وماتحمله من معنى عند الفيلسوف زيغمونت باومان)، حيث كل شيء يتبدّل بسرعة، وتفتقد العلاقات والقيم والتنشئة لمرجعياتها الثابتة. بل ينبغي أن يكون بمنطق الانخراط الواعي والمسؤول والحر، الذي يُدرك أن الحفاظ على الطابع الإنساني في خضم الذكاء الاصطناعي يتطلب استحضار العقل، وحماية القيم، وضمان الحق في التأمل، والتفاعل الإنساني الحقيقي.
وهذا ما يفرض علينا جميعًا، أفرادًا ومؤسسات، أن نعيد التفكير في علاقتنا بالوسائط الجديدة، لا من أجل التراجع عنها، بل من أجل تفعيلها بما يخدم كرامة الإنسان ورفاهه، ويضمن للأجيال الحالية والمقبلة حقها في العيش الكريم داخل عالم لا تفقد فيه هويتها ولا تُعطّل فيه إنسانيتها،
وذلك عبر الرصد والتفسير، والتدخل بالتوجيه، والتربية، والتثقيف، من أجل الحماية والاستثمار الأمثل، مع إبراز القدوة الرقمية الواعية، التي تستطيع أن توازن بين التقنية والإنسان، بين المعاصرة والوعي، وبين الذكاء الاصطناعي والحكمة البشرية.