الدكتور أحمد أزوغ: أستاذ باحث، مدير ماستر للذكاء الاصطناعي بباريس
لم يكن سهلًا علينا أن نفتح ذلك الباب. نحن من قضينا أجمل سنوات دراستنا في الحي الجامعي بمدينة ليون، نطبخ الكسكس معا بطريقتنا المختلطة، نُصلّي جماعة، ونتنقّل بين المساجد لتناول الفطور في رمضان، نغني الراي، ونتندر بلهجاتنا المتقاربة في حلقات النقاش العديدة، ونكتشف معًا أن الشوق إلى الضفة الجنوبية للمتوسط لا يطفئه لا نهر الرون، ولا أدراج فيوليون.
كان صديقي لطفي الجزائري ابن مدينة باتنة الجميلة بمثابة أخي. رفيق في قمة اللطف والشهامة، تتشابه لهجتنا حين نغضب، ويتوحّد ألمنا حين نشتاق. لكننا كنّا نتحاشى هذا الحديث بالذات: نزاع المغرب والجزائر. كأننا نخاف على أخوّتنا الصادقة من أن يدميها جرح مفتوح.
التقيته أخيرًا بباريس بعد سنوات من الغياب. كلانا أصبح أستاذًا في جامعة أوروبية. تندرنا بماضينا الفقير، وحمدنا الله على ما بلغناه، وتبادلنا أطراف الحديث في كل المواضيع… إلا ذلك الموضوع المعلوم. نظراتنا تخفي عتابًا دفينًا لا يجرؤ أحدنا على كشفه.
أخذت شهيقًا عميقًا، واستجمعت شجاعتي وقلت:
– لطفي، ما الذي يجعل صديقين حميمين يترددان في الحديث عن الصراع بين وطنيهما؟
كنا نحتسي الشاي بالنعناع في مقهى صغير خلف حديقة “لوكسمبورغ”.
ابتسم، تلك الابتسامة التي تختلط فيها الطيبة بالتحفظ، وقال:
– لأن هذا الموضوع يا أخي، إن دخل بيننا، قد يسرق منا كل شيء بنيناه. ألا تعلم أن “الخاوا خاوا” أصبحت اتهاما.
أومأت برأسي. كنت أعلم أن الخيط بين الأخوّة والخصام رفيع. لكنني أعلم أيضًا أن السكوت أطول عمرًا من الدهر نفسه.
قلت له بنبرة صادقة:
– بل أظن أننا بسكوتنا هذا ننافق بعضنا. لك دائرتك على المواقع الاجتماعية ولي دائرتي، وكلانا يعلم ما يقوله أبناء شعبه عن الشعب الآخر… هل يرضينا هذا؟
أجاب مطأطئ الرأس، بحسرة:
– صدقت، الوضع كارثي يا أحمد. لقد انتقلنا من عداوة الدول إلى عداوة الشعوب. والله وحده يعلم إلى أين المصير. لكن لا شك أن للنزاع أسبابه الحقيقية.
قلت له:
– هل تتذكر حين كنا ندرس تاريخ المقاومة في بلداننا؟ كنا نقرأ عن الأمير عبد القادر ومصالي الحاج، كما نقرأ عن عبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي؟
قال:
– ونعتز حين نذكر كيف توحد المغاربة والجزائريون في دحر المستعمر بعد أن جعل منا مواطنين من الدرجة الثانية في بلداننا. ما زال الجزائريون يذكرون كيف احتضن المغرب بوضياف وبنبلة وبومدين وبوتفليقة، وكيف دعم المقاومة بالمال والسلاح والشرعية.
أجبته:
– محمد الخامس لم يكن فقط ملكًا للمغاربة، بل كان يحمل همّ استقلال الجزائر أيضًا. والحسن الثاني، حين كان وليًا للعهد، صعد إلى منبر الأمم المتحدة سنة 1961 ليعلن أمام العالم أن استقلال المغرب ناقص ما دامت الجزائر تحت نير الاستعمار. لكنكم لم تنسوا ذلك، أليس كذلك؟
صمت.
ثم نظر إليّ نظرة فيها وجع قديم، وقال:
– لم ننسَ. لكن الجزائريين يرون أن المغرب انقلب علينا بعد الاستقلال. جرح حرب الرمال سنة 1963 ما زال نازفًا، وكأنها طعنة في خاصرة مولودٍ جديد.
قلت:
– أعرف هذا الاتهام. وهو مؤلم لنا أيضًا. لكن كل دار لها روايتها. المغرب لم يكن معتديًا، بل كان يطالب فقط بإعادة النظر في ترسيم حدود رسمها الاستعمار على أراضٍ كانت تابعة له تاريخيًا، والجزائر رفضت الحوار. نعم، سالت الدماء، لكنه لم يكن طمعًا، بل غصّة في محاولة لاستعادة حق سليب. ثم إنكم تضخّمون الحدث… مناوشات دامت 21 يومًا، وراح ضحيتها أقل من 500 جندي. هل تستحق هذا التهويل؟ هل تعلم أن حروب ألمانيا وفرنسا خلفت قرابة 15 مليون قتيل، ورغم ذلك بنوا اتحادًا أوروبيًا؟
قال بغضب:
– هذا صحيح، لكن اسمح لي أن أكون صريحًا: تحرش المغرب بالجزائر لم يتوقف. تطبيعكم مع إسرائيل، أكبر عدو لأمتنا، كان صادمًا لنا. كيف تتحالفون مع من يقتل أهلنا في فلسطين؟
قلت بهدوء، محاولًا تهدئته:
– لطفي، العلاقات الدبلوماسية لا تُحلّل بالعاطفة. نحن لم نكن يومًا ضد فلسطين بل العكس تماما. الملك يرأس لجنة القدس، والمغاربة نزلوا إلى الشوارع في كل حرب على غزة. لكن السياسة لعبة معقدة. علاقاتنا مع إسرائيل ليست حبًا، بل حسابات سيادية. وعداوتكم لنا كانت أحد أسبابها. ثم… هل تحاصرون مصر أو الأردن أو تركيا؟ هل قاطعتم أوروبا أو أمريكا؟
قال:
– لا أدافع عن تناقضاتنا. لكن تطبيعكم سار بسرعة غريبة، وكأنه يُخفي نية أخرى لمهاجمتنا. والطعنة حين تأتي من الجار، توجع أكثر.
قلت:
– أفهم ألمك. وأفهم غضب الجزائريين، وأنت تعلم أن المغاربة أنفسهم ليسوا مجمعين على هذه العلاقات. لكن الجمل لا يرى إلا سنام جاره… ألا ترون أن دعمكم للبوليساريو هو الطعنة الكبرى؟ كيف تسعون صباح مساء لتقسيم المغرب، ثم تُنكرون علينا أن نغضب ونبحث عن حلفاء؟
قال مدافعًا بأنفة :
– قضية الصحراء قضية تصفية استعمار يا أحمد، والجزائر بحكم تاريخها تساند الشعوب في تقرير مصيرها. نظّموا استفتاء وسنكون أول من يقبل بالنتيجة. ثم لا تنسَ المخدرات… بلدكم يغرق بلدنا بها ضمن مساعٍ حثيثة لزعزعة استقرارنا.
قلت بإصرار:
– هذا الكلام مردود عليكم. المغرب لم يكن خصمًا لكم يومًا. أنتم من قطع العلاقات، من أغلق الحدود، من طرد السفير، من حظر أجواءه أمام طائرات الآخر، من فرض الفيزا على الآخر.
قال:
– وأنتم؟ لا تفوّتون منبرًا دوليًا إلا وهاجمتمونا فيه. ذبابكم الإلكتروني يشن حربا ضروسا على كل ما هو جزائري.
قلت:
– وهل أنتم لا تفعلون الشيء نفسه وأكثر؟ لو اقتصر الأمر عندكم على نشطاء العالم الرقمي لصبرنا. لكنكم تسبون المغرب والمغاربة ملكا وشعبا في إعلامكم الرسمي يوميا، هذا ما لا يمكن أن نقبله بأي حال من الأحوال.
ساد صمت ثقيل ونحن نرتشف ما تبقى من شاي بارد بتوتر.
مرّت بجانبنا سيدة جزائرية وزوجها المغربي، يلعبان مع طفلهما الذي يتحدث لهجة مغربية جزائرية هجينة. نظرنا إليهم… ثم تبادلنا نظرة دفء وضحكنا.
قلت له مبتسمًا:
– الظاهر أننا شعبان مرتبطان ببعضنا إلى غير رجعة، وليس لنا من مفر إلا الحوار.
ضحك، ثم قال:
– على كل حال لن يستطيع أي منا اقتسام حدوده والرحيل بها بعيدا كما يقسم الجبن الفرنسي.
ضحكنا معا بملئ فينا، ثم قلت له :
حالنا غريب فعلاً يا لطفي. نتقاسم الدين واللغة والكسكس، والشاي… فكيف افترقت بنا السبل؟
فأجاب قائلا :
– لأننا لا نتحاور بما يكفي ونتنافس كالضرائر. نحن لا نحتاج فقط إلى تسوية بين الدول، بل إلى مصارحة بين الشعوب.
قلت له :
– صدقت. نحن نتجادل كثيرًا، لكن لا نتحاور بصدق. نعرض خلافاتنا أمام العالم، وننسى أن نبحث معا عن الحقيقة.
فمد يدي إلي وقال :
– فلنبدأ إذًا. ولنعطي هذا الجرح ما يستحق من الاهتمام.
صافحته بحرارة، وقلت :
– وأنا معك. على الأقل أنا وأنت لا نحمل تجاه بعضينا أية أحكام مسبقة. لكن علي أن أذهب الآن، ولنضرب موعدا هنا كل أسبوع ولنواصل هذا الحوار… فلعلنا نجد يومًا حلا لهذا الواقع الأليم.