مغرب المؤسسات الذي نريد: من منطق السلطة إلى منطق الواجب المقدس (الحلقة 6)

بقلم الدكتور أحمد أزوغ: أستاذ باحث، مدير ماستر للذكاء الاصطناعي بباريس

في المقال السابق، تأملنا صورة المغرب كما يراها الآخر، من خلال شهادات الزائرين وتقارير المنظمات الدولية ومؤشرات الأداء المؤسسي. رأينا بلدًا يُدهش ضيوفه بكرم شعبه ودفء إنسانيته، لكنه يترك في نفوسهم شيئًا من الحيرة أمام بيروقراطية متعبة، وخدمات متأرجحة، ومشهد مؤسساتي لم يرق بعد إلى نبل الإنسان المغربي.

واليوم، وبعد سلسلة مقالات وصفنا فيها الخلل وشخّصنا فيها الداء، ندخل مرحلة جديدة نرسم فيها معالم العلاج، ونفتح فيها أفق الأمل، في محاولة لاستنهاض الهمم وبناء مشروع وطني متكامل للتخلق.

لقد تبيّن لنا أن مجال التخليق في المغرب ينقسم إلى جبهتين واضحتين:

● جبهة المؤسسات التي ما زالت تُعاني من ضعف في الحوكمة وتسرّب بعض مظاهر الفساد،

● وجبهة المجتمع، الذي يحتاج إلى ترسيخ سلوك يومي متخلق في احترام الغير، وتجنب الغش، والالتزام بالقانون.

وإذا كان أغلب الحديث عن الأخلاق في المغرب متركزا عن السلوك الفردي فإن الحقيقة أنه لا يكفي أن نُطالب المواطن بأن يكون فاضلًا من تلقاء نفسه، في بيئة يحس بأنها تصنع فيه الانكسار أو تشجعه على الاحتيال. لا يمكن أن نطالب الفرد بأن يتخلق، بينما يذلّه المرفق العمومي، ويخذله القضاء، ويخدعه السياسي، ويخيفه الدين.

صحيح أن المؤسسات مجموعة أفراد من المجتمع، لكنها كذلك مؤسسات لها شخصية معنوية مستقلة مسؤولة أمام المواطن. 

كنت يوما ما عند قريب عزيز لي في فرنسا، وكان يطلب من ابنه وعمره 6 سنوات أن يساعده في شؤون البيت، فيحضر هذا ويأخذ ذاك، وكم كانت دهشتي كبيرة حين التفت هذا الطفل إلى أبيه بعد أن تعب من كثرة الطلبات، وقال ببراءة غاضبة: “وهل تظن أنني رئيس الجمهورية؟”. لقد أدهشتني هاته الجملة، ليس فقط لخفة ظلها، بل لما تحمله من معنى عميق. فإذا كان مفهوم المسؤول عندنا مرتبطا بثلاثية الجاه والسلطة والامتيازات، فإن مفهومه عند ذاك الطفل الصغير كان مفهومه هو السهر على خدمة الآخرين. لقد فهم هذا الطفل من خلال مدرسته وأسرته أن المسؤول هو من يخدم الناس لا من يخدمه الناس، وهذا في نظري هو مفتاح تخليق المؤسسات.

إن محور هذا الإصلاح لا يكمن في تغيير الأشخاص ولا تكثيف الرقابة، بل في تغيير التصوّر نفسه: أن تتحول المؤسسة من منطق السلطة إلى منطق الواجب المقدّس. أن يدرك الموظف أو المسؤول أن ما يقوم به ليس منًّا ولا تفضّلًا، بل واجبٌ يؤديه بكرم ولباقة، دون تنطع ولا استعلاء.

الخدمة العمومية، الواجب المقدس

في نوفمبر 2017، اعتذرت شركة “تسوكوبا إكسبرس” اليابانية علنًا في بيان رسمي نُشر على موقعها وعلى وسائل الإعلام، لأن القطار انطلق بـ 20ثانية قبل الموعد المحدد. هذه الحادثة التي أثارت استغراب العالم، لم تدهش اليابانيين، لأن العمل هناك ليس مجرد وظيفة، بل مهمة مقدسة، وتعبير عن الاحترام والانضباط والشرف.

إن تخليق الخدمة العمومية هو قطب الرحى لمشروع تخليق الحياة العامة. ففي الإدارة، والمستشفى، والجماعة المحلية، ووسائل النقل يرى المواطن أو السائح وجه الدولة الحقيقي. فهل ترضى الدولة أن يكون وجهها شاحبا مكفهرا، أم نريده وجهًا رحبا، مستقيما، يحترم الإنسان ويقبل على خدمته بتفاني.

في المغرب الذي نريده، نحتاج إدارة تُبسّط المساطر، وتُقلّل عدد الخطوات، وتُقلّص آجال الانتظار. نريد زمنًا إداريًا لا يُهدر، ومعاملة لا تُهين، وخدمة تُنجز دون إذلال أو وساطة. نريد مرفقًا عموميًا يحرص على جودة الاستقبال، ووضوح المعلومة، واحترام آجال التسليم، واستقلالية الشكايات، وتتبع رضا المواطن. نريد مؤسسة تقيس أداءها، وتنشر نتائجها، وتتعلم من أخطائها.

إن الخدمة العمومية في هذا التصور ليست عبئًا يُرهق المسؤول والموظف، بل غاية وجودية، ودورٌ محوري يجعل المسؤول يشعر أن له مقامًا في المجتمع، وأثرًا في حياة الناس، وانتماءً حقيقيًا لهذا الوطن حينما يؤدي مهمته بتفاني وعلى أكمل وجه.
حينها فقط، تتحول الوظيفة والمسؤولية من مصدر رزق مضمون إلى مهمة أخلاقية مقدسة، ويتحول الموظف من مجرّد رقم في هيكل إداري إلى لبنة أساسية في صرح الدولة والمجتمع.

العمل السياسي، نبل البناء والاستقرار

لطالما ارتبط مفهوم السياسة في المغرب بالانتهازية والاغتناء غير المشروع، في حين أن دورها نبيل ومحوري في أي دولة حديثة، ولا يمكن تصور دولة ديمقراطية من دونها. فدور السياسة محوري يتجاوز تسيير الشأن العام، ليصبح الوسيلة التي يُعبَّر بها عن الإرادة الشعبية، وتُبنى من خلالها المشروعية ويضمن فيها استقرار الدولة، ويسهر فيها على المصلحة العامة، ويراعى فيها اختلاف الآراء والقناعات، وتُمارَس بها السلطة ضمن حدود القانون والمحاسبة. السياسة في الدولة الديمقراطية لا تملك الحقيقة، لكنها تُنظّم الاختلاف حولها. هي فنّ الموازنة بين إرادة الفرد واحتياجات الجماعة، تحت مظلة القانون، وبروح من الأخلاق والمسؤولية.

السياسة في المغرب الذي نريده ليست فن خطابة للوصول للسلطة، بل فن الإصغاء حتى للخصوم، وفن التخطيط والبناء والتقدم. نريد السياسي المتخلق الذي لا يختبئ خلف شعارات فارغة، ولا يحتكر الحقيقة، ولا يستعرض إنجازاته في كاميرا التلفزيون فقط، بل ينزل إلى الناس على الدوام، يسمعهم، ويصحّح مساره إذا أخطأ. نريد سياسيا لا ينافق، ذلك الذي تصدح حنجرته بمعارضة سياسة الحكومة حين يكون في الأغلبية، وما إن يدخل إلى التسيير حتى تجده “يقلب الفيستة” ويبدأ في المدح والتطبيل. نريد أحزابًا تستحضر عظم المسؤولية في تسيير الدولة، أحزابا ترشح الأكفاء لمناصب المسؤوليات لا من يدفع أكثر، أحزابا تُربّي المواطن على النقاش والمسؤولية، لا على الاصطفاف، أحزابا تغني البرلمان بنقاش يقترح لا يُطبل، ويقوم لا يهدم، ويحترم لا يسب.

إن قطب الرحى في هذا الإصلاح السياسي هو النزاهة والأمانة. إن الاغتناء ليس عيبًا في ذاته، لكن مجاله ليس الحقل السياسي، بل هو التجارة والاستثمار. وحين يتحول السعي نحو الثراء إلى هدف داخل عند السياسي تفسد الإدارة، ويتحول الوطن إلى فرص وغنائم.

الأمن والعدالة، ضمانة الحق والقانون

إن الأمن والعدالة هي الضمان للحق والعدل في كل مجتمع خلوق يحترم مواطنيه. فإذا عجزت المؤسسة الأمنية عن حماية المواطن، وتقاعس القضاء عن إنصافه من ظلم لحقه، انفرط العقد الذي يربطه بدولته، وصار باحثا عن الإنصاف خارج دواليب القانون ولو بكل الوسائل.

في المغرب الذي نريده، لا يكون القضاء حصنًا للأقوياء دون الضعفاء، ولا يتحول الأمن إلى أداة زجر يحمي الأغنياء دون الفقراء، بل يكونان رُكنين للثقة، ومرجعين للطمأنينة، وضمانتين لاحترام كرامة الإنسان. نريد قضاءً نزيهًا، مستقلاً، يُعامل جميع المواطنين بندية، يحرك المتابعات سواء للقوي أو للضعيف، له اليد الطولى في مراقبة الأفراد والمؤسسات، يُصدر أحكامه في آجال معقولة، ويُبرّرها بلغة واضحة تُقنع قبل أن تُدين.

نريد جهازًا أمنيًا يُجيد الإنصات كما يُجيد التدخل، لا يُفرّق بين الغني والفقير، ولا يختزل مهمته في الأوامر، بل في حماية الحق والأمن العام. جهازا قريبا من المواطنين، يُشْبههم، يفهم لغتهم، ويشاركهم همومهم. نحتاج أجهزة أمنية وقضائية حريصة على بناء الثقة الشعبية فيها عبر المتابعة والمساءلة والإنصات. تسارع الزمن للتدخل والفصل في الأحكام، وتحرص على تنفيذ الأحكام وإنفاذ صوت الحق والقانون. تحترم المساطر في التوقيف والتفتيش، وتضمن الشفافية وشروط الكرامة للمرتفقين.

نحتاج رجال أمن وعدالة كفيفين عفيفين، مغتنين برواتب محترمة تضمن العيش الكريم، وتكافئهم على تفانيهم وخطورة مهامهم، وتحصّنهم ضد الإغراءات والانزلاق. نحتاج رجال أمن وعدالة مُسانَدين في مهامهم مُعانين عليها، مسلحين بكل أدوات الحماية والتدخل، مصانة هيبتهم في سائر أنحاء الوطن.

الدين، مؤسسة ثابتة وفقه حي متجدد

لعل من أبرز ما أبدعه العقل المغربي، وضمن للمغرب هيبته ووحدته وحضارته مؤسسة إمارة المؤمنين. مؤسسة اعتبارية ممتدة عبر التاريخ ترسخ هوية الدولة الإسلامية، وتضمن للأفراد حرية ممارسة شؤونهم الدينية، وتحميالدين من التسييس، وتحمي المجتمع من مخاطر الخلاف الفقهي والتعددية المذهبية من تطرّف أو اختراق. مؤسسة مهيكلة عبر المجلس العلمي الأعلى ووزارة الأوقاف والمجالس العلمية الجهوية بما يضمن وحدة الخطة ووضوح المنهج.

لكن هذا الثبات المؤسسي يحتاج دينامية تربوية تخالط المجتمع وتواكب همومه. وإلا ترسخ في ذهن البعض فكرة جمود الحقل الديني في المغرب، وحيويته في المشرق، وتأكد عندهم بُعد الواعظ الديني الرسمي وقُرب الداعية الحر الرقمي. فالدين حين يُدار كمؤسسة، لا يجب أن يُفرّغ من حيويته، ولا أن يتحوّل إلى صوت فوقي يأمر دون أن يربي. 

في مغرب المؤسسات الذي نريده نحتاج واعظًا لا يكتفي بمنبر المسجد، بل ينزل من برجه العاجي إلى السوق، إلى الحي، إلى المدرسة، يُوجّه ويُنصت ويُواسي، يتحول من خطاب الأمر إلى خطاب النصيحة، ويُشارك الناس همومهم بلغة قريبة، لا ليراقب بل ليربي، ولا ليُحاضر بل ليفهم هموم المجتمع ويتفاعل معها ويحصن من الانحراف أو التنطع.

نريد خطابًا دينيًا يُبنى على فقه المقاصد والواقع لا على فقه الجزئيات، وعلى اعتبار المصلحة لا الجمود على أقوال السلف، وعلى ترتيب الأولويات لا تهويل الفروع وترك الأهم. نريد دينًا متخلّقًا بالتسامح والرحمة والوسطية والتدرج، لا دينًا يقتصر على قيادة الناس بالوعد والوعيد، بل دينا حيا موقظا للضمائر مؤكدا على المسؤوليات. دين يحبب الإنسان في الفعل الحسن لنفسه قبل أن ينظر إلى المصلحة الفردية مصداقا لقول رسول الله ﷺ: “إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة… فليغرسها.”

حين تُفَعل المؤسسة الدينية كقوة أخلاقية داخل المجتمع، لا كواجهة شكلية أو أداة ضبط، تُصبح رافعة للتخليق، وجسرًا بين الضمير الفردي والمسؤولية الجماعية.

خاتمة

إذا كان هذا المقال قد تناول جبهة المؤسسات، حيث تُمارَس السلطة ويُصنع القرار، وطرحنا فيه تصورًا لمغرب مؤسسات نريده أكثر عدلًا، وخدمة، وشفافية، ونزاهة… فإن جبهة المجتمع لا تقل أهمية، بل هي الكفّة الثانية لميزان مشروع التخليق. هناك، حيث يُصاغ السلوك اليومي، وتُختبر القيم في السوق، والشارع، والمدرسة، والمنزل، والفضاء الرقمي…

في المقال القادم، سننزل من هرم الدولة إلى نسيج المجتمع، لنرسم معًا ملامح السلوك المواطن الذي نطمح إليه. فكما لا تكتمل الدولة بدون مؤسسات عادلة، لا يكتمل المجتمع بدون مواطن حيّ الضمير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

المغرب التطواني يحتج على المعاملة الارياضية لجماهيره بالقنيطرة

المنشور التالي

توقيف شخصين بحوزتهما أكثر من 2200 قرص مهلوس وكمية من الكوكايين

المقالات ذات الصلة