عندما تنظر إلى سياسة ترامب الاقتصادية، قد تبدو لك لأول وهلة غير منطقية، متناقضة، وربما حتى عبثية. رئيس يفرض ضرائب جمركية على حلفائه، ينسحب من الاتفاقيات التجارية العالمية، يهاجم المؤسسات التي بنتها الولايات المتحدة بنفسها، ويتعامل مع الاقتصاد كأنه صفقة عقارية. لكن إذا اقتربت من الصورة أكثر، ووضعت نفسك في مكان رئيس يريد استعادة موقع أمريكا كقوة اقتصادية مطلقة، تبدأ الأمور في أخذ شكل مختلف.
ترامب لا يرى في العولمة تطورًا إيجابيًا، بل تهديدًا لمكانة بلاده. يعتقد أن الولايات المتحدة “استُغلت” لعقود من قبل دول استفادت من أسواقها دون أن تقدم شيئًا في المقابل. من هنا، جاءت فلسفة “أمريكا أولاً”، التي لم تكن مجرد شعار انتخابي، بل عقيدة كاملة تقلب مفاهيم السياسة الاقتصادية التقليدية. ترامب لم يكن معاديًا للتجارة، بل معاديًا للتجارة التي لا تخدم المصلحة الأمريكية بشكل مباشر.
الصين كانت الهدف الأول. في عام 2018، فرضت واشنطن رسومًا جمركية بنسبة 25% على سلع صينية بقيمة 50 مليار دولار، تبعتها رسوم إضافية على واردات بقيمة 200 مليار دولار. ومنذ ذلك الحين، تصاعدت الحرب التجارية بين القوتين. بحلول عام 2025، بلغ متوسط الرسوم الجمركية الأمريكية على المنتجات الصينية 76%. لم يكن الأمر فقط مسألة حماية صناعات محلية، بل استراتيجية ضغط لإجبار الصين على تغيير قواعد اللعبة، خاصة في ما يتعلق بسرقة الملكية الفكرية، والدعم الحكومي للشركات، وميزان التبادل التجاري الذي كان يميل بشدة لصالح بكين.
المثير للانتباه أن ترامب لم يوفر حتى حلفاء الولايات المتحدة من نير سياساته الاقتصادية. في 2018، فرض رسومًا جمركية على الصلب والألمنيوم الأوروبيين، مما أثر على صادرات بقيمة تفوق 6 مليارات يورو. من وجهة نظره، الحلفاء ليسوا بالضرورة شركاء عادلين، ما دام الميزان التجاري يميل لصالحهم. الاتحاد الأوروبي، مثل الصين، بات خصمًا في حرب اقتصادية غير معلنة.
تداعيات هذه السياسات لم تقتصر على الخارج. في الداخل الأمريكي، أدت هذه الرسوم إلى ارتفاع الأسعار على المستهلكين. مثلًا، ارتفع سعر بعض الأحذية الرياضية من 155 إلى 220 دولارًا. ومع ذلك، فإن هذه الأضرار الجانبية كانت مبررة في نظر الإدارة، ما دامت تخدم الهدف الأكبر: إعادة ترتيب قواعد اللعبة الاقتصادية العالمية.
ترامب كان يعلم جيدًا أن الاقتصاد ليس مجرد أرقام، بل قوة سياسية وجيوستراتيجية. إذا فقدت أمريكا هيمنتها الاقتصادية، فهي تفقد معها مفاتيح النفوذ في العالم. لذا، لم يكن يسعى فقط لحماية الوظائف الأمريكية، بل لمنع أي قوة صاعدة – خصوصًا الصين – من وراثة قيادة النظام الاقتصادي الدولي.
إذا أردت أن تفهم سياسة ترامب الاقتصادية، لا تنظر إليها بعين الخبير التقليدي الذي يقيس النجاح بمعايير السوق الحرة والنمو العالمي، بل من زاوية رجل أعمال يعتقد أن العالم ليس سوى طاولة مفاوضات، وأن من لا يربح فيها، يخسر بالضرورة. سياساته، مهما بدت متناقضة، كانت منطقية إذا فهمت أنها تهدف إلى إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي، بما يضمن أن تبقى أمريكا في القمة، مهما كان الثمن.
ترامب ببساطة لا يهتم بأن تبدو سياساته منطقية للجميع… يكفي أن تكون منطقية لرجل يريد استعادة السيطرة.