في بلاط المؤثرين: كيف تحولت الشهرة إلى سلعة والعقول إلى ضحية؟

وسط زحمة الصور والفيديوهات والمحتوى الاستهلاكي على وسائل التواصل الاجتماعي، صعد ما يُسمى بـ”المؤثرين” إلى واجهة المشهد الرقمي، محولين فضاء الإنترنت إلى ساحة نفوذ لا تُحكمها قواعد واضحة. هؤلاء المؤثرون، الذين باتوا يُسوّقون أنفسهم كنماذج للنجاح والموثوقية، سرعان ما ارتفعوا إلى طبقة معزولة فوق واقع جمهورهم، يعيشون في “أبراجهم العاجية” بعيداً عن أي مساءلة حقيقية.

في قلب هذا التحول، أصبحت الشركات ترى في المؤثرين وسطاء مثاليين لترويج المنتجات والخدمات. فبعد أن ارتفع عدد الإعلانات التي يسوقها هؤلاء سنوياً، تحولت حساباتهم الشخصية إلى منصات دعائية بامتياز. وباسم القرب من الجمهور والحديث العفوي، يتم تمرير رسائل تسويقية مدفوعة تخفي وراءها أهدافاً تجارية بحتة، بينما تغيب المعايير الأخلاقية والضوابط التي تحمي المستهلكين من التضليل.

ورغم أن بعض الدول تحركت لضبط فوضى المؤثرين عبر فرض قواعد الإفصاح عن المحتوى الإعلاني، فإن الفوضى لا تزال العنوان الأبرز لهذه السوق المسمومة. لا يقتصر المشهد على خداع المتابعين، بل يتجاوزه إلى تزييف الأرقام، وشراء المتابعين والإعجابات والتعليقات، في مشهد احتيالي مكشوف يدفع ثمنه حتى المعلنون أنفسهم. أما في المغرب، فالواقع أكثر خطورة؛ إذ تعم الفوضى بلا حسيب ولا رقيب في ظل غياب تشريعات حقيقية تحمي المستهلك من الدعاية الكاذبة والاستغلال الرقمي. وهكذا تحول الفضاء الرقمي إلى مستنقع رمادي، تختلط فيه الأكاذيب بالحقائق، وتُباع فيه الشهرة والتأثير لمن يدفع أكثر، بلا اعتبار لأي قيمة أخلاقية أو مهنية.

الأخطر من ذلك أن هذا التأثير الزائف لا يقتصر على اختيار المنتجات، بل يمتد إلى صياغة أنماط التفكير والسلوك لدى الشباب والأطفال. تحت وابل الرسائل الموجهة، تتغير المعايير تدريجياً: يصبح النجاح مظهراً، والجمال معياراً سطحياً، والقيمة الإنسانية مرهونة بعدد المتابعين. وهكذا تتسلل منظومة استهلاكية إلى القيم والمخيال الجمعي دون مقاومة تذكر.

أمام هذا الواقع، يواصل الإعلام التقليدي فقدان موقعه، بينما تتدافع الميزانيات الإعلانية نحو حسابات المؤثرين، ولو على حساب الصدقية والعمق. لقد ساهم هؤلاء “الجنود الجدد” في إعادة صياغة قواعد اللعبة الإعلامية، ليس نحو الأفضل، بل نحو عالم يقدس السرعة والمظهر، وينبذ المعنى والجوهر.

إن الحاجة أصبحت ماسة لإعادة التفكير الجاد في هذه الظاهرة. لا بد من تعزيز التربية الإعلامية، وبناء وعي نقدي حقيقي لدى الجمهور، خصوصاً فئة الشباب. فالعالم لا يحتاج مزيداً من تجار الأوهام، بل يحتاج مؤثرين حقيقيين، يصنعون القيمة لا الضجيج، ويخاطبون العقول لا الغرائز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

أكثر من مليون زائر و70 دولة في “سيام 2025”: مكناس تنبض بالفلاحة

المنشور التالي

من قلب الرباط.. برلمانات الجنوب ترسم خريطة الشراكات والتنمية

المقالات ذات الصلة