عٌمّالنا وعلماؤنا بالخارج

بقلم عمر المرابط: عضو مجلس الجالية ورئيس المنتدى المغربي للكفاءات والنخب “ممكن”

لا زلت أذكر ككل المغاربة من جيلي حفلات عيد العرش في عهد الحسن الثاني رحمة الله والتهاني التي كان يتلقاها من وداديات التجار والعمال المغاربة بالعديد من المدن خارج الوطن وكانت التلفزة المغربية تتحفنا بسرد لوائحهم، ولما جئت طالبا إلى فرنسا شاء القدر أن ألتقي ببعض هؤلاء من الذين كانوا ولا زالت وطنيتهم تتجاوز كل الحدود، لكنهم في أغلبيتهم الساحقة من العمال المغارية الذين جاؤوا إلى فرنسا كيد عاملة رخيصة وسواعد بَنَتْ فرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية واشتغلوا في مناجم الفحم ومصانع السيارات وكل المهن التي كان الفرنسيون يتعففون عن الاشتغال فيها، أو تلك التي كانت تنقصها الرجال والسواعد القوية.

هذا، منذ أكثر من ثلاثة عقود، لكن عند وصولي لإكمال دراستي هنا في باريس التقيت أيضا شبابا جاؤوا لإكمال دراستهم العليا وحصلوا على شواهد كبرى، ولإعطاء مثال حي وحقيقي عايشته بنفسي كان لي قريبان أحدهما يمثل الصنف الأول من العمال النشطين الذين كانوا لا يفتؤون عن الاشتغال لخدمة الجالية فبالرغم من أن كلتا يديه قَطِعتا في حادث مميت كاد يفقد فيه حياته في مصنع للسيارات غرب باريس، إلا أن ذلك لم يمنعه من الانخراط في العمل النقابي والجمعوي لتعليم العربية لأبناء الجالية في مدينة صناعية غرب باريس كانت تضم معملا من أكير معامل صناعة السيارات في فرنسا، وقَدِّر لي أن أشتغل معهم في هذا المجال وكان أول عمل قمت به عند وصولي لفرنسا.

كان هذا الصنف من العمال بسيطا في حياته، يحلم بالعودة إلى بلاده فيسكنفي الغربة في شقق ذات الكراء الرخيص HLM  ليشتري منزلا كبيرا في المغرب، وليدخل صيفا إلى “البلاد” مُحمّلا بالهدايا للقريب والبعيد، وكان يعتقد أن الحصول على جنسية بلد الإقامة نوع من أنواع الضلال بل الكفر ناهيك عن التنكر لبلدك الأصل، ولا زلت أذكر كيف جاء هذا القريب عند الوالد رحمه الله وهو من علماء القرويين، مستنكرا طلب وحصول قريبة لنا على الجنسية الفرنسية ، سائلا إياه هل يجوز ذلك شرعا، كيف وقد وأصبحت القريبة المسلمة موالية لبلد كان مستعمرا وعدوا للمغرب منذ زمن قريب.

أما القريب الثاني، فقد جاء طالبا وحصل على شهادة الدكتورة في المعلوماتيات  واشتغل في هيئة الطاقة الذرية  وتزوج فرنسية مسلمة وحصل بطبيعة الحال على الجنسية الفرنسية مما مكنه الحصول على منصب عال داخل واحدة من أكبر معاهد البحث العلمي في مجالات الطاقة والدفاع  والأمن وقُدّر لي أيضا الاشتغال معه في مديرية التقنيات المتقدمة، وكان يؤطر العديد من الطلبة والباحثين في مجالات جد حساسة من الناحية العلمية والأمنية.

جاء أغلب الصنف الأول في ستينات وسبعينات القرن الماضي  وعاش ظروفا صعبة وكما ساهم في بناء دول المهجر فقد ساهم في النشاط الاقتصادي للمغرب عبر تحويلاته المالية التي لم تنقطع لحد الآن، كما كان العائل الذي يَعُول العديد من العائلات خاصة في مناطق من المغرب معروفة بكثرة مهاجريها إلى الدول الأوروبية، وكان ولا زال من الذين يمكن أن تصدق فيهم الآية الكريمة: “ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”، كانوا ولا زالوا أهل عزة وكرامة وكرم، بل وقاموا أيضا بإعانة الصنف الثاني من الطلبة المهاجرين الذين نجحوا في حياتهم وشكلوا نخبة من الكفاءات المغربية التي استطاعت الاندماج في بلد الإقامة نظرا لإتقانها لغة البلد المضيفعلاوة على الشهادات العليا التي حصلوا عليها ومكنتهم من الحصول على مناصب جد محترمة، وأصبحت خبرتهم العلية في العديد من المجالات تغازل من طرف الدول المقيمة وشركاتها الكبرى.

هذا الصنف الثاني، لم يأت للغرب حاملا معه عقدة المستعمر، وبقي من بقي وعاد من عاد وقد راكم الجميع تجربة مهنية وخبرات عالية وعديدة في مجالات عدة، المغربُ في أشد الحاجة إليها، وهذا الصنف تعامل مع وضعه في بلدان الإقامة بواقعية كبيرة، فلم يتردد في طلب الجنسية ولم يطلب فتوى في ذلك فحيثما كانت مصلحة العباد فثمة شرع الله، واعتبر الجنسية مطية للحصول على حقوقه المدنية ثم تجاوزا للعديد من العقبات الإدارية والمهنية، بل وأصبح يطالب بحقوقه كمواطن في بلد الإقامة ومنها حقوقه الثقافية والدينية والمدنية والسياسية، ومنها حق الاختلاف شكلا ومضمونا مع احترام قوانين وأعراف بلدان الإقامة، كل هذا دون التخلي عن هويته المغربية، وثقافته الدينية، ولغته العربية أو الأمازيغية.

لن أتحدث في هذا المقال الأول من نوعه في هذا الموضوع عن الصنف الثالث وهم أبناء الجيل الثاني والثالث والرابع ممن ولدوا هنا، لكن ارتباطهم العاطفي والوجداني مع المغرب قد يفوق بعض من غادروه عنوة طلبا لمستقبل أفضل، لكني سأتحدث بعجالة عن صنف رابع لم يعد لهم أي ارتباط عاطفي بالمغرب ولا يهمهم لا المغرب ولا أهله، ونفضوا أيديهم منه وإذا ما زاروه فهي لزبارة الأقارب، ولو استطاع أحدهم تغيير سحنته واسمه لفعل، وشخصيا كم مرة التقيت منهم من تنكر لبلده الأصل وهو لا يتكلم الفرنسية بلغة ركيكة ثم يقول لك اسمي جاك وسأحكي لكم قصتي مع جاك في مقال قادم.

ختاما، ونحن نعيش زمن العولمة وتعدد الهويات، يبرز مغاربة العالم كنموذج استثنائي في الوفاء والانتماء لوطنهم الأم، المغرب. فرغم حملهم لجنسيات متعددة، يظل المغرب حاضرًا في وجدانهم، يشكل بوصلة انتمائهم ومصدر فخرهم. من بين كل هؤلاء، هناك فئة جد متعلقة بالمغرب وتخلص له الوفاء والولاء وإن حملت ألف جنسية أخرى، وقضية الولاء هذه لنا فيها عبرة وتبصرة للمُشككين في ولاء مغاربة العالم؛   من قاصري البصر والبصيرة الذين يكفيهم النظر إلى ذاك البلد الذي يختال ويتبختر، لأنه استطاع التأثير على كبريات العواصم الدولية وفي قراراتها، بأشخاص كلهم مزدوجي الجنسية على الأقل، لأن الولاء مثله مثل الإيمان محله القلب ولا تغيّره الأوراق الثبوتية ولا تزعزعهالظروف المعيشية، ثم يأتيك ذلك المُشكك المرتاب ويقول للصنف الثاني المذكور، لستم للمناصب ولستم أهل لها، يكفينا بل يكفونا منكم عمالنا في الخارج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

عشرات القتلى والجرحى بقصف متبادل بين الهند وباكستان

المنشور التالي

المغرب يعزز موقعه السياحي باستقطابه 5,7 مليون زائر في أربعة أشهر فقط

المقالات ذات الصلة