عيد بلا أضاحي: حين تفرض الحكمة الشرعية والضرورة الاقتصادية كلمتها

في سابقة ذات دلالات متعددة، يقف المغاربة هذا العام أمام منعطف استثنائي في علاقتهم مع شعيرة عيد الأضحى، لا بسبب إهمال ديني أو فتور اجتماعي، بل استجابة لتوجيه ملكي سامٍ، نابع من منطلقات شرعية، وسياقات اقتصادية وبيئية تزداد إلحاحا. إنها لحظة اختبار جماعي للوعي، حيث يلتقي المنطق الديني مع مقتضيات الحكامة في تدبير الأزمات.

ومنذ خطاب 26 فبراير 2025، الذي دعا فيه الملك محمد السادس المغاربة إلى عدم ذبح الأضحية، برزت طبيعة خاصة لهذا التوجيه: فهو ليس فقط أمرًا صادرًا عن رأس الدولة، بل خطاب ديني صادر عن أمير المؤمنين. ومن هذا الموقع الفريد، حمل التوجيه طابعًا مزدوجًا: شرعيًا ووطنيًا، يجمع بين مقاصد الشريعة ومصالح العباد. فالملك لم يلغِ الشعيرة، بل مارسها باسمه، نيابة عن الشعب، على سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، في موقف رمزي بالغ القوة والتبصر.

ففي فقه المقاصد، تكون الضرورة، والحرج، ورفع المشقة، مفاتيح لفهم جوهر التشريع، لا شكله. وهنا يتجلى عمق التوجيه الملكي: أن لا تُحمل الشعيرة أكثر مما تحتمل، وأن لا يُثقل على المواطن باسم سنة مؤكدة قد تحولت، بفعل الأعراف، إلى فرض اجتماعي ضاغط.

لقد تحول ذبح الأضحية لدى كثير من المغاربة من عبادة اختيارية إلى واجب ثقافي لا يُعذر المرء في تركه، ولو بالاستدانة. وتلك مفارقة حادة بين جوهر التدين وروحه، وبين مظاهره الموروثة. وفي وقت بلغت فيه تكلفة الأضحية ما يعادل شهرين من أجر المواطن البسيط، تصبح الدعوة إلى التيسير واجبًا أخلاقيًا بقدر ما هو ديني.

إن الجانب الاقتصادي لا يقل أهمية عن البعد الشرعي. فبلد يعاني من ست سنوات من الجفاف، ومن فقدان أكثر من ثلثي قطيعه الحيواني، ومن ارتفاع جنوني لأسعار الأعلاف واللحوم، لا يمكن أن يغامر بما تبقى من موارده الحيوية لأجل ممارسات ظرفية. الأضحية ليست عبادة قائمة بذاتها بقدر ما هي شعيرة موسمية، يمكن تعليقها متى اختلت شروطها، وهي اليوم مختلة بوضوح تام: بيئيًا، فلاحيا، واجتماعيًا.

التوجيه الملكي يأتي في هذا السياق ليحمي الثروة الحيوانية، ويمنح الفلاحين الصغار فرصة لإعادة التوازن، بدل القضاء على ما تبقى من سلالات وسط استنزاف غير عقلاني.

ورغم أن التوجيه الملكي لا يرقى، من الناحية الشكلية، إلى مستوى قانون ملزم، إلا أن موقعه الرمزي والديني يُسبغ عليه قوة استثنائية في السياق المغربي. فمكانة الملك كأمير للمؤمنين تضع توجيهاته في مقام القواعد المؤطرة للسلوك العمومي، وهو ما يفسر تجاوب العديد من الجهات مع مضمون الرسالة، من إغلاق أسواق الماشية إلى مصادرة الأضاحي المخالفة.

وفي ظل غياب نص جنائي مباشر، فإن أدوات الردع لا تزال قائمة، سواء عبر اشتراط الرخص للذبح أو ضبط السلامة الصحية. غير أن الأهم من الزجر هو بناء وعي جمعي يُدرِك أن احترام التوجيه الملكي هو احترام للنظام العام، وللمصلحة العليا للوطن.

لقد كشف هذا الجدل عن خلل بنيوي في تمثل الدين داخل المجتمع المغربي: حين تصبح بعض المظاهر –كذبح الأضحية– معيارًا للتدين، ويتم تجاهل السياقات والضرورات والمقاصد، نكون أمام تأويل تقليدي يفرّغ الشعيرة من مضمونها الحقيقي.

إن رفض البعض للتوجيه الملكي، وإصرارهم على الذبح بأي ثمن، يعكس تغليبًا لثقافة اجتماعية متوارثة على حساب الوعي الديني الناضج. وفي هذا السياق، تتحول المناسبة الدينية إلى فرصة لإعادة بناء المفاهيم، وتحرير التدين من أسر العادة والتقليد.

ختاماً، إن عيد الأضحى هذا العام ليس لحظة للاحتفال فقط، بل امتحان للتماسك الوطني، ولفهم الدين في ضوء العقل والواقع. وبين منطق الشرع ومصالح الاقتصاد، وبين التضامن الجماعي والتقليد الفردي، يُكتب فصل جديد في علاقة المغاربة بشعائرهم: فصل عنوانه “عيد بلا أضاحي.. لكنه عيد بالحكمة والرحمة والوعي الجماعي”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

انسحاب أمريكي متسارع من شرق سوريا

المنشور التالي

اللجنة الانتخابية تؤكد فوز لي جاي ميونغ برئاسة كوريا الجنوبية

المقالات ذات الصلة