عيد العرش (ملف خاص).. على درب التنمية والاحترام المتبادل: شراكة المغرب وإسبانيا تزدهر

مع حلول الذكرى ال26 لعيد العرش المجيد، تستحضر المملكة المغربية تاريخ علاقاتها المتميزة مع إسبانيا، كشريك استراتيجي يتسم بالحيوية والتنوع، ويتخطى أطر الجوار الجغرافي ليشمل مجالات سياسية، اقتصادية، ثقافية ورياضية. في عام حافل بالإنجازات على مستوى التعاون الثنائي، تؤكد مناسبة عيد العرش عمق الروابط التي تجمع البلدين وتفتح آفاقا رحبة للتعاون في المستقبل.

تعيش العلاقات السياسية بين المغرب وإسبانيا واحدة من أقوى مراحلها منذ عقود، حيث يصفها وزير الشؤون الخارجية المغربي ناصر بوريطة بأنها تمر بـ”أفضل لحظاتها على الإطلاق”. وقد شكل اللقاء الذي جمع الملك محمد السادس برئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز في أبريل 2022 محطة مفصلية أعادت بناء الثقة بين البلدين، وأطلقت دينامية غير مسبوقة في مسار الشراكة الاستراتيجية متعددة الأبعاد بين الرباط ومدريد.

وتعد قضية الصحراء المغربية محورا أساسيا في هذه العلاقات، حيث جددت إسبانيا، بصفتها قوة استعمارية سابقة وعضوا فاعلا في “مجموعة أصدقاء الصحراء”، دعمها العلني والصريح لمبادرة الحكم الذاتي التي اقترحها المغرب سنة 2007. واعتبر وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس في عدة مناسبات هذه المبادرة “الأكثر جدية وواقعية ومصداقية”، مشددا على أن مدريد تساند جهود المغرب الجادة داخل المسار الأممي لإيجاد تسوية نهائية للنزاع الإقليمي.

هذا الدعم السياسي الإسباني يعزز توجها أوروبيا متناميا، بحسب بوريطة، الذي دائما ما يشير إلى أن أكثر من 22 دولة من أعضاء الاتحاد الأوروبي باتت تدعم المبادرة المغربية. ويرى المسؤول المغربي أن المواقف التي تروج لحلول متجاوزة باتت اليوم خارج السياق الدولي، مؤكدا أن “من يريد حلا حقيقيا يجب أن يضع على الطاولة مقترحات قابلة للتنفيذ، لا شعارات مجردة”.

وقد أسهم هذا التناغم السياسي في تحصين العلاقات الثنائية من التوترات السابقة، حيث أفرز الإعلان المشترك الموقع في 7 أبريل 2022 سلسلة من الإنجازات على مستوى الحوار السياسي رفيع المستوى، وتكثيف الزيارات الوزارية وتعزيز التنسيق الأمني، إلى جانب تفكيك أكثر من 210 شبكات للهجرة غير النظامية، مما يجعل من الشراكة المغربية الإسبانية نموذجا إقليميا متقدما في إدارة الملفات السياسية الحساسة.

تعتبر العلاقات الاقتصادية بين المغرب وإسبانيا من أبرز ركائز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، حيث تحتل إسبانيا المرتبة الأولى كشريك تجاري للمغرب، مع تبادل تجاري يتجاوز 22 مليار يورو سنويا. وتشهد الصادرات الإسبانية إلى المغرب نموا مستمرا وصل إلى نحو 6% خلال العام الماضي، حيث انتقلت من 7.35 مليار يورو في 2020 إلى أكثر من 12.85 مليار يورو في 2024. وفي المقابل، سجلت واردات إسبانيا من المغرب زيادة ملحوظة من 6.37 مليار يورو إلى 9.83 مليار يورو في ذات الفترة، مما يعكس توازناً تجارياً إيجابياً لإسبانيا بفائض يزيد على 3 مليارات يورو.

وتتواجد في المغرب أكثر من 350 شركة إسبانية، تنشط في قطاعات حيوية مثل الطاقة والبنية التحتية، وتسهم بشكل مباشر في خلق فرص شغل وتحفيز النمو الاقتصادي المحلي. ويعكس توقيع أربعة بروتوكولات استثمارية بقيمة 500 مليون درهم من طرف شركات كاتالونية التزاما متزايدا للشركات الإسبانية بالتوسع في السوق المغربي، مما سيُحدث أكثر من 700 منصب شغل مباشر في مدن طنجة وتطوان والقنيطرة، في مجالات متنوعة كصناعة السيارات، وتثمين النفايات، ومواد البناء، وصناعة التغليف.

تعزز هذه الاستثمارات من مكانة المغرب كوجهة جاذبة للاستثمار في المنطقة، مدعومة بإصلاحات إدارية واقتصادية مستمرة تشمل تبسيط الإجراءات، ورقمنة المساطر، وتعزيز دور مراكز الاستثمار الجهوية، مما يؤكد طموح المملكة في أن تصبح منصة تنافسية ومستدامة على الصعيد الإقليمي.

يشهد قطاع السياحة بين المغرب وإسبانيا ازدهارا ملحوظا، حيث بلغ عدد الزوار الإسبان إلى المغرب 3 ملايين زائر عام 2024، بزيادة 16% عن العام السابق، مما يجعل إسبانيا ثاني أكبر سوق سياحي للمملكة بعد فرنسا. ويعزز هذا الرقم الروابط الثقافية والاجتماعية بين البلدين، خاصة مع وجود ما يقرب من 12 ألف طالب مغربي يدرسون في الجامعات الإسبانية، وهو ما يشكل حوالي 10% من إجمالي الطلاب الأجانب في إسبانيا.

ويعد المغرب من أكبر الحاضنين لشبكة معاهد ثيربانتس حول العالم، والتي تسهم في تعزيز التبادل الثقافي واللغوي، مما يدعم التفاهم والتقارب بين الشعوب ويعزز من العلاقات الثنائية على مختلف المستويات.

تتسم العلاقة بين المغرب وإسبانيا بتنوع المجالات التي تشمل التعاون الأمني، خاصة في ملف الهجرة حيث تم تسجيل انخفاض بنسبة 5% في عدد الوافدين غير النظاميين عبر البحر الأبيض المتوسط الغربي خلال العام الماضي، بفضل التعاون الميداني والاستخباراتي المشترك.

كما تم تعزيز الشراكة في مجالات الرقمنة والهندسة عبر توقيع اتفاقيات في إطار مشروع الربط الثابت عبر مضيق جبل طارق، الذي يهدف إلى بناء نفق سككي بطول 60 كيلومترا، منها 28 كيلومترا تحت قاع البحر، بتكلفة تقديرية تبلغ 15 مليار يورو. ويعتبر هذا المشروع “مشروع القرن” ليربط بين أوروبا وأفريقيا ويعزز التنمية الاقتصادية والاستدامة البيئية.

يمثل تنظيم كأس العالم 2030 في نسخة مشتركة بين المغرب وإسبانيا والبرتغال، محطة بارزة في تاريخ العلاقات بين الدول الثلاث، ويشكل تحديا ماليا وتنمويا كبيرا للمغرب الذي يتوقع أن يستثمر ما بين 50 و60 مليار درهم (5-6 مليارات دولار) من ميزانية إجمالية تتراوح بين 15 و20 مليار دولار.

وتشمل استعدادات البنية التحتية الرياضية التي تتطلب توفير 6 ملاعب كجزء من 18 ملعبا مشتركا بين البلدان الثلاثة، بينها “الملعب الإفريقي الكبير” في بنسليمان بتكلفة 5 مليارات درهم، إضافة إلى ملاعب في طنجة، الرباط، الدار البيضاء، مراكش، أكادير، وفاس بتكلفة مليار درهم لكل منها. إلى جانب ذلك، ستُنشأ أو تُجدد حوالي 60 مركز تدريب رياضي بتكلفة 3.5 مليار درهم.

أما على المستوى غير الرياضي، فإن استضافة البطولة تمثل حافزا ضخما لتحسين أنظمة النقل، مثل تحديث المطارات، تطوير الطرق، وشبكات القطارات، مما يعزز البنية التحتية الحضرية ويخدم التنمية الاقتصادية على المدى الطويل.

كما أنه من المتوقع أن تزيد الطاقة الاستيعابية الفندقية بنحو 100,000 سرير لتلبية الطلب المتزايد، مع تحقيق عائدات سياحية قد تصل إلى 120 مليار درهم بحلول عام 2030، بالإضافة إلى خلق آلاف فرص العمل المستدامة في قطاعات البناء والسياحة والخدمات.

وستسهم البطولة كذلك في تعزيز صورة المغرب دوليا كوجهة رياضية وثقافية وتجارية، وتدعم الوحدة الوطنية من خلال إبراز الخريطة الكاملة للمملكة، بما فيها الصحراء، على الساحة العالمية.

تجسد الشراكة المغربية-الإسبانية نموذجا ناجحا للتعاون المتعدد الأبعاد، الذي يشمل الاقتصاد، الثقافة، الأمن، والاستثمار في مشاريع استراتيجية كبرى مثل الربط الثابت عبر مضيق جبل طارق وتنظيم كأس العالم 2030. وتعكس هذه العلاقات دينامية قوية تؤسس لمستقبل مزدهر يشمل تعزيز التنمية المستدامة وخلق فرص الشغل ودعم التكامل الإقليمي.

يأتي عيد العرش هذا العام ليؤكد أهمية هذه الشراكات الدولية في دعم مسيرة المغرب التنموية، ويرسخ مكانة المملكة كفاعل رئيسي في المنطقة، قادرا على استثمار علاقاته الخارجية من أجل تحقيق الرفاه والاستقرار لشعبه وتعزيز مكانته على الساحة الدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

عيد العرش (ملف خاص).. المغرب والكويت ثبات سياسي وتعاون تنموي

المنشور التالي

من المغرب إلى ألمانيا: كفاءات مؤهلة وشراكة تفتح آفاق المستقبل

المقالات ذات الصلة