صفحات من التاريخ (2): عندما نسجت القوافل جسور الفكر بين فاس وتمبكتو

في زمن كانت فيه الصحراء الكبرى تبدو كحاجزٍ هائل يفصل بين شمال إفريقيا وجنوبها، نجحت قوافل التجارة في نسج خيوط من ذهب وعلم، صنعت تاريخا عابرا للحدود، ربط بين مدينة فاس المغربية ومدينة تمبكتو، جوهرة الساحل في قلب مالي. لكن هذه العلاقة لم تقتصر على الربح الاقتصادي أو تبادل السلع فحسب، بل مثلت منظومة ثقافية ودينية متكاملة، ساهمت في تشكيل هوية غرب إفريقيا الإسلامية لقرون طويلة.

البداية كانت مع الملح والذهب، حين كانت قوافل الجمال تنقل الملح من مناجم تغازة شمالا، وتعود محملة بالذهب من وادي النيجر جنوبا. هذا الطريق التجاري الخطير، الذي عبر مئات الكيلومترات من الصحراء القاسية، وثقه الجغرافي الأندلسي البكري في كتابه “المسالك والممالك” في القرن الحادي عشر، حيث أشار إلى أهمية هذه الطرق ودورها في ربط المغرب بما كان يعرف بـ”بلاد السودان”، كما وصف فاس بوصفها إحدى المحطات الكبرى التي تتحكم في تدفق هذه السلع النادرة.

لكن سرعان ما اتسعت وظيفة هذا الطريق، وأصبح ينقل إلى جانب البضائع، الكتب والمخطوطات والعلماء. فقد كانت فاس في تلك الحقبة مركزا مزدهرا للعلم، تحتضن جامع القرويين الذي كان منارة للفقه واللغة والتصوف. ويؤكد مؤرخو المدينة، أن فاس لم تكن فقط مركزا لصناعة المنسوجات والجلود، بل أيضا مركزا لتأليف ونسخ وتوزيع الكتب، التي كانت ترسل إلى جنوب الصحراء عبر القوافل، مثلها مثل السلع الثمينة.

وبفضل هذه التبادلات، تحولت تمبكتو من محطة صحراوية إلى حاضرة علمية عالمية. ومع وصول الكتب والعلماء من فاس، نمت الحياة الثقافية والفكرية فيها بشكل مذهل، فقد احتضنت المدينة مكتبات عامرة ومدارس مزدهرة، وكان أبرزها جامع سانكوري، الذي تحول إلى ما يشبه جامعة مفتوحة للفقهاء والدارسين.

ولم تكن هذه الرحلات سهلة، فقد واجهت القوافل صعوبات كثيرة في عبور الصحراء الكبرى من حرارة وأعاصير رملية، بالإضافة إلى خطر الهجمات من بعض القبائل. لكن مع ذلك، كان حرص العلماء والتجار على نقل الكتب والمعرفة قويا جدا، إذ كانوا يؤمنون بأن العلم هو كنز لا يقدر بثمن، وأهم من الذهب نفسه. وقد أشار المؤرخ التمبكتي عبد الرحمن السعدي في كتابه تاريخ السودان ، إلى أن كثيرا من العلماء والفقهاء المغاربة كانوا يسافرون إلى تمبكتو حاملين معهم كتبا في الفقه والحديث، وأن هذه الكتب كانت تستقبل في المدينة استقبالا خاصا، وتحفظ في المكتبات وتنسخ لأهل العلم. ولهذا السبب، استمرت هذه التجارة المعرفية رغم كل التحديات، وكانت أحد أسباب ازدهار مدينتي فاس وتمبكتو كمراكز ثقافية وعلمية.

وحين نعيد قراءة هذا التاريخ ، ندرك أن الطريق التجاري بين فاس وتمبكتو لم يكن طريقا عاديا، بل كان قناة لنقل الحضارة وتبادل الرموز الثقافية والدينية. لقد كانت القوافل تحمل الكتب كما تحمل الذهب، وتحمل العلماء كما تحمل البضائع، فساهمت في بناء مجال ثقافي مشترك، لا تزال آثاره حاضرة في المخطوطات المحفوظة، والهوية الإسلامية لبلدان غرب إفريقيا حتى اليوم. فهذه الرحلة الطويلة، التي كانت تمر بالصحراء والواحات، ليست مجرد صفحة من الماضي بل إنها حكاية عن كيف يمكن للعلم أن يعبر الحدود، ويربط بين الناس، حتى وإن فرقتهم المسافات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

مساعدة مالية استثنائية لأرامل و متقاعدي الأمن الوطني

المنشور التالي

ماكرون يدعو للإعتراف المشترك بدولة فلسطين من فرنسا وبريطانيا

المقالات ذات الصلة