في زوايا الزمن، تختبئ الحكايات، وتتناثر بين الصفحات أحداث وأصوات شخصيات تركوا لنا تاريخًا يهمس بما كان ولعل قصة الأندلس وعلاقتها بالمغرب إحدى أكثر الصفحات التاريخية إشراقًا في تراثنا المشترك، فهي تروي كيف أسهم المغاربة في رسم حضارة عظيمة على ضفاف أوروبا.
في هذه الصفحة من صفحات التاريخ، نروي كيف أعاد المرابطون والموحدون رسم خريطة الأندلس، وكيف وحّدوا مماليك وخاضوا معارك، وتركوا أثرًا لا يزال صداه يتردد حتى اليوم. من خلف أمواج الأطلسي، جاءوا لا كغزاة، بل كمنقذين يحملون راية الوحدة والسيف والعقيدة. المغاربة، حين عبروا إلى الأندلس، لم يكونوا مجرد جيوش عابرة، بل كانوا صفحات جديدة في تاريخٍ يكاد ينطفئ.

في أقصى جنوب غرب أوروبا، حيث تتعانق الأرض بالبحر، تمتد أرض عُرفت عبر التاريخ باسم الأندلس، والتي تُعرف اليوم بجنوب إسبانيا. ووفقًا للمؤرخ حسين مؤنس في كتابه تاريخ الأندلس في عهد المسلمين، فإن شبه الجزيرة الإيبيرية شهدت نفوذًا رومانيًا واسعًا قبل الفتح الإسلامي، وكانت شاهدة على صراع داخلي وانقسامات حادة بين حكام ملوك القوط الغربيين، وهم شعوب ذات أصول جرمانية سيطرت على المنطقة بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية.
ومع بداية القرن الثامن الميلادي، بدأت أولى فصول القصة بين المغاربة والأندلس؛ قصة جمعت بين الفتح والنصرة والبناء. وتبدأ أحداث كان والي المغرب، موسى بن نصير، يتابع باهتمام أوضاع الأندلس المتفككة، فرأى في عبور المسلمين إليها خطوة استراتيجية كبرى، فأرسل أحد أبرز قادته، وهو طارق بن زياد، القائد الأمازيغي ليقود جيشًا صغيرًا عبر مضيق جبل طارق.

في صباح ربيعي من سنة 711م، وقف طارق بن زياد على صخرة شاهقة تطل على البحر. كان الجنود خلفه يتطلعون إلى الضفة الأخرى، حيث الغموض والمصير المجهول. أمسك طارق بسيفه، وخاطبهم قائلاً: “أيها الناس، أين المفر؟ البحر وراءكم والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر.”
بهذه الكلمات زرع القائد المغربي الأمل والثبات في قلوب رجاله. لم يكن عبور البحر مغامرة عسكرية فقط، بل كان بداية فصل جديد في تاريخ حضارة ستغير وجه أوروبا إلى الأبد. وبهذه الخطبة الشهيرة، أطلق طارق بن زياد شرارة الانتصار في معركة وادي لكة على الملك لذريق، فاتحًا أبواب الأندلس أمام موجة حضارية جديدة.
مع مرور الزمن، لم يغب الحضور المغربي عن تفاصيل الحياة في الأندلس، فحين تفرقت الدولة الأموية وسقطت طليطلة بيد الإسبان، عاد الأندلسيون ليستنجدوا بالمغرب. فاستجاب لهم يوسف بن تاشفين، مؤسس دولة المرابطين، وجاز البحر على رأس جيش مغربي كبير، لينتصر في معركة الزلاقة عام 1086، ويعيد التوازن إلى الكفة الإسلامية. ثم جاء الموحدون بعده، وأعادوا توحيد الأندلس، وحققوا نصرًا كبيرًا في معركة الأرك، مؤكدين أن المغرب كان دائمًا السند والمدد.

ويذكر أن الأندلسيون كلما كانت تضيق بهم السبل، التفتوا إلى المغرب يستمدون منه القوة والعزم، فقد كان المغرب سندهم يوم الشدة، وملاذهم حين تهتز الأرض تحت أقدامهم. لم يكن وجود المغاربة في الأندلس عابرًا، بل تماهى في كل حجر وصوت ولحن. من هندسة القصور والحدائق إلى نغمات الطرب والموشحات، حملت الأندلس بصمة مغربية خالصة. وظل المغاربة هناك يحملون حبًا خاصًا لتلك الأرض، عشقًا أبديًا عبر الأجيال، لتسكن قلوبهم وتُخلّد في فنونهم، وشعرهم، وحكاياتهم التي لا تزال تُروى حتى اليوم.
العلاقة بين المغرب والأندلس ليست صفحة منسية، بل هي فصل من التاريخ لا يزال حيًا في الذاكرة. لقد كان المغاربة جزءًا من بناء حضارة عظيمة، لا تزال آثارها قائمة إلى اليوم في قرطبة وغرناطة وإشبيلية. ويكفي أن نعرف أن بداية تلك القصة كانت من مضيق صغير عبره طارق بن زياد، فكتب لنا بداية مجد لا يُنسى.