“خيوط من ذهب”: حكاية القفطان بأعين هند العراقي

“اليد لي تخيط ما تغلط، والقفطان من سكاتو معروف شكون دارو” مثل مغربي قديم يلخص بدقة فلسفة الإتقان التي تسكن تفاصيل القفطان المغربي، الذي يحمل حكاية متجذرة في الذاكرة، تنسجها الأيادي المغربية المبدعة بخيوط من الأصالة والرقي. في المحطة الثالثة من سلسلة بورتريهات التي تنشرها THE PRESS، نعيد اكتشاف القفطان بأعين هند العراقي، ونبحر في عوالم الأناقة الراقية، لنرسم صورة قريبة من قلب إحدى أبرز مصممات القفطان المغربي هند العراقي المرأة التي استطاعت أن تنقل القفطان من التقليد إلى رحاب العالمية، دون تجريده من هويته، فتبهرك بتصاميمها المتفردة، وتدهشك باحترامها للموروث. هند العراقي لم تتوقف فقط عند مصممة أزياء بل فنانة تتحدث بالإبرة و الخيط، وتكتب بالثوب و التطريز قصائد مغربية خالدة.

من ذكريات الطفولة إلى منصة التصميم

منذ نعومة أظافر هند، نسج القفطان المغربي خيوطه في ذاكرتها ووجدانها، فقد نشأت في كنف عائلة تحتفي بالقفطان كما لو كان وشاح هوية و سيمفونية جمال، ترويه الأمهات و الجدات في تفاصيل الأقمشة و التطريز. فهند كانت تهوى اختيار ألوان القفطان و رسم خطوطه، و لا تزال تذكر ذلك القفطان الوردي الذي صممته بيديها الصغيرة لحفل عيد العرش بالمدرسة الابتدائية، وقد زينته بخيوط الفولوغ الأسود. قفطان كان بسيطا في شكله، لكنه عميق الأثر، فقد كان أول قصيدة حب تكتب على قماش.

مرت السنوات و تفرقت بها الدروب، لتدرس إدارة الأعمال بعيدا عن عالم الخيوط و الإبر، لكن شيئا ما ظل ينبض في قلبها بنداء قديم…نداء القفطان. وفي سنة 2006 على أرض إسبانيا استجابت هند لذلك النداء لتطلق أول مجموعة من تصاميمها الخاصة، لم تكن مجرد تجربة بل كانت ولادة جديدة دفعتها للغوص أعمق في بحر التصميم، لتقرر دراسة الأزياء، وتسمح لحلمها أن يحلق عاليا في سماء العالمية. وبمجرد عودة هند إلى المغرب، أزهرت أولى مجموعاتها الراقية haute culture، قفاطين تنبض بالأصالة و تتنفس الحداثة تخاطب المرأة المغربية و العالمية بلغة القماش المطرز، والقصات الراقية، لم تكن تلك المجموعة مجرد بداية، بل كانت إعلانا صامتا عن ولادة مصممة تمزج بين الحلم و الحرفة، و بين الذاكرة و الرؤية.

بين الخيط و الهوية…فلسفة التصميم عند هند العراقي

في قلب كل قفطان تصممه هند العراقي، يتردد صدى التقاليد في كل تفصيلة يدوية متقنة. فهي دوما ما تحرص على احترام الخطوط الكلاسيكية للقفطان المغربي، بقصاته العريقة و تطريزاته التي تحكي تاريخا كأنها تحفظ سر الأمهات في الإبرة و الخيط، لكن هند لا تكتفي بصون التراث فقط، بل تبعث فيه حياة جديدة، فتضيف لماستها العصرية ببصيرة فنية مدروسة، قماش حديث، لون جريء، أو لمحة من الموضة العالمية تتسلل بانسياب دون أن تخل بهيبته. فمصممتنا تؤمن أن القفطان ليس مجرد لباس، بل لغة و أن مهمتها كمصممة ليست فقط الحفاظ عليه بل جعله يتكلم بلغة الحاضر و يتناغم مع ذوق المرأة العصرية من دون أن ينسى جذوره.

زواق المعلم :بين الاندثار والتجديد

من بين التحديات التي تضع ظلها على درب هند العراقي اليوم، هو تراجع فن “زواق المعلم”، ذلك الفن العريق الذي كان روح القفطان المغربي و ذروة جماله، في زمن تسارع فيه الصناعات يذبل هذا الفن في صمت، ويختفي تادريجيا تاركا وراءه فراغا يهدد ذاكرة ثقافية ثمينة. بحزن عميق تنقل لنا هند حسرتها على غياب هذه الحرفة، التي تعتبرها تهديدا للهوية المغربية، فهند تنادي بصوت مسموع للتدخل و الحفاظ على هذا الفن، لإعادة مكانته و ضمان استمراره كنبض حي في جسد الثقافة المغربية. في نظرها هذا القفطان يظل ناطقا بروح من صنعته يد فنان، لا آلة.

عندما يتحول القفطان إلى حكاية عالمية

من بين تصاميمها الكثيرة تحتفظ هند بقفطان واحدٍ له مكانة استثنائية في قلبها، قفطان أسود فاخر مطرز يدويا بالأحجار، يتجاوز قيمته الجمالية ليحمل في طياته حكاية عاطفية خالدة، مايميزه هو تلك اللمسة المرسومة بأنامل والدتها، الفنانة التشكيلية إلهام لغزاوي، التي أضافت إليه نفسا فنيا حميما يجعل منه أكثر من زي تقليدي. قطعة تجمع بين توقيع هند كمصممة وبصمة والدتها كفنانة، لتصبح رمزا لعلاقة تتجسد على قماش و تطرز بالحب.

هند العراقي وخيوط الحلم نحو العالم

اختتمت هند هذا اللقاء كأنها تخيط الكلمات كما تخيط القفاطين بخفة و أناقة، قائلة إن القفطان المغربي ليس مجرد زي بل قصيدة تطرز بالخيط و الإبرة، وتحمل بين ثناياها ذاكرة وطن و روح قرون، لكي يحلق عالميا كما يليق به، يحتاج لمن يحسن رواية حكايته للعالم، وإلى منصات تنقله من خزائن الذوق المغربي إلى عيون العالم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

رسالة مشفرة أم صدفة؟ منشور مدير FBI السابق يفتح تحقيقا فدراليا

المنشور التالي

الملك محمد السادس يدعو إلى الوقف الفوري للعمليات العسكرية في غزة

المقالات ذات الصلة