في الوقت الذي ينتظر فيه المواطن المغربي إجراءات حقيقية لمحاسبة المتورطين في تبديد المال العام، أصبحنا نرى الجدل المحتدم بين قياديين في الحكومة يقدم على أنه مجرد “اختلاف في المعطيات”، لكن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير. ما يُروَّج له كصراع سياسي بين حزبَي الحمامة والميزان، يخفي في جوهره شبهة “فساد مالي” واستهتار بأموال الدعم العمومي. كيف يُعقل أن تتحول قضية بهذه الحساسية، تمس ملايين الدراهم من المال العام، إلى مجرد مباراة في التصريحات الإعلامية؟
في هذا السياق المربك، خرج راشيد الطالبي العلمي، عضو المكتب السياسي لحزب التجمع الوطني للأحرار ورئيس مجلس النواب، بتصريحات ينفي فيها بشكل قاطع الأرقام التي قدمها نزار بركة، وزير التجهيز والماء والأمين العام لحزب الاستقلال، بشأن الدعم العمومي لمستوردي الأغنام والأبقار. حيث أكد العلمي، الذي حل مساء أمس الجمعة ضيفاً على مؤسسة الفقيه التطواني، أن المبلغ المصروف لم يتجاوز 300 مليون درهم، وزع على 100 مستورد ، مشيرًا إلى أن سعر الخروف المستورد المرتفع لم يكن مفاجئًا بل كان “نتيجة متوخاة”.
خرجة راشيد الطالبي لم تكن سوى جوابا على نزار بركة الذي اختار سابقا أن يحط الرحال في برنامج “نقطة إلى السطر” ليكشف معطيات مخالفة تمامًا. بركة تحدث عن دعم بقيمة 13 مليار سنتيم، مُنح لمستوردين باعوا الأضاحي بنفس أسعار السوق دون مراعاة للبعد الاجتماعي للدعم، حيث أكد بركة أن “الكبش جابوه بـ2000 وباعوه بـ4000”، مشيرًا إلى أن الربح بلغ 100%، وهو ما وصفه بكونه “غير أخلاقي وغير مقبول”.
المفارقة أن هذا التناقض الفج في الأرقام والتصريحات لا يأتي من المعارضة، بل من داخل الحكومة ذاتها، ومن طرف قياديين يُفترض فيهما التنسيق والانسجام. مما يطرح أسئلة حرجة: من نصدق؟ وأي رواية تمثل الحقيقة؟ وهل نحن أمام خلاف سياسي ظرفي، أم أمام شرخ عميق يكشف هشاشة التحالف الحكومي؟
المواطن المغربي لم يعد يصدق هذه الروايات الخرافية المتضاربة، ولا يستهويه هذا النوع من المسرحيات السياسية. هناك مطالبة اليوم، وبصوت عالٍ، بتحقيق نزيه وشفاف من الجهات المختصة، يحدد المسؤوليات بدقة ويضع حداً لهذا العبث. ففي دولة المؤسسات، لا مكان لمن يعبث بأموال المواطنين أو يتلاعب بأمنهم الاجتماعي والاقتصادي. وكما يقال: “الخرفان تُذبح مرة في السنة، أما الثقة حين تُذبح.. فلا تُبعث من جديد”..