حين تقتلنا الروابط: الوجه الخفي للعلاقات السامة وكيف ننجو منها

الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، يبحث بالفطرة عن الأمان والاحتواء والدعم وسط علاقاته المختلفة، لكن في زوايا هذا السعي، قد يقع في فخ من نوع آخر؛ علاقة لا تبني بل تهدم، لا تحيي بل تستنزف; إنها العلاقة السامة التي قد تتسلل إلى حياة الفرد بصمت، وتتغذى على طاقته النفسية والجسدية، حتى تفرغه من ذاته دون أن يشعر.في العمل، في الحب، في الصداقة، وحتى بين أفراد العائلة، قد نجد أنفسنا محاصرين داخل دائرة مفرغة من الألم والشك والتقليل من الذات. وهنا تحديدًا، تبدأ ملامح العلاقة السامة في التشكل.

حين يصبح القرب عبئا

العلاقات السامة ليست وليدة مواقف عابرة أو خلافات طبيعية، بل هي سلسلة طويلة من التصرفات التي تشعرك بأنك “غير كاف”، تفقدك ثقتك بنفسك، وتجعل من حضورك في علاقة معينة عبئا نفسيا لا يطاق. وفي حوارها مع THE PRESS،قالت الأخصائية النفسية الدكتورة عفاف لوديني:“أي علاقة ممكن أن تكون سامة، ليس فقط بين الزوجين أو الحبيبين، بل بين الأصدقاء، بين الإخوة، وحتى بين الآباء وأبنائهم، فالسُمية لا تقتصر على شكل العلاقة، بل على ما يفرزه هذا الرابط من ألم وتشوهات داخلية.”

وتؤكد لوديني أيضا على ضرورة التفريق بين “الشخصية السامة” و”العلاقة السامة”، إذ قد يكون طرفا العلاقة شخصين عاديين، لكن التفاعل بينهما يولد بيئة خانقة، يضطر فيها أحدهما لتغيير شخصيته ليواكب مزاج الآخر، فيفقد تلقائيته وحريته ويعيش تحت سطوة القلق والخوف من ردود الفعل.

ملامح العلاقة السامة: الحب المشروط والسيطرة المقنّعة

من بين أبرز المؤشرات التي تنذر بأنك عالق في علاقة سامة,حسب لوديني:
• تقديمك الدائم دون مقابل، وشعورك بأنك مستغَل.
• غياب الاحترام والدعم المتبادل.
• شعور دائم بالذنب، وكأنك دائمًا الملام.
• تراجع الثقة بالنفس وازدياد التوتر والانفعال.
• فقدان الراحة النفسية، بل وحتى الجسدية، لدرجة أن الجسد يبدأ بالتعبير عن الألم بطرق مبهمة: صداع دائم، قلق، أرق، وحتى أمراض جسدية غير مبررة.

وترى الأخصائية لوديني أن أكثر ما يميز العلاقة السامة هو التذبذب العاطفي، حيث يتحوّل الشخص المتحكم إلى “نسخة طيبة” فجأة، ثم يعود لسلوكياته السلبية، مما يجعل الضحية سجينة أمل كاذب، منتظرة لحظة “السعادة المؤقتة”، في دوامة لا تنتهي.

حين يصبح الحب قيدا

ما يجعل العلاقة السامة أكثر خطورة هو ارتباطها بأحاسيس الحب أو الواجب أو الولاء، مما يعقّد فكرة الانفصال أو الانسحاب منها. وقد تتجلى في بعض العلاقات، مثل الزوج الذي يفرض سلطته على شريكة حياته، حتى في تفاصيل حياتها الدقيقة: ملابسها، قراراتها، وحتى طريقة تفكيرها.
وهذا ما يخلق تضاربًا داخليًا قاتلًا، حيث لا تستطيع المرأة التعبير عن نفسها أو أن تعيش بهويتها الحقيقية.

من الألم إلى النجاة: خطوات الأمل

تقول لوديني: “أصعب الحالات ليست لمن تعلم أنها في علاقة سامة، بل لمن لا تعرف أصلًا أنها تعيشها.”
ولهذا، يبدأ دور الأخصائي النفسي من تشخيص الواقع، ثم تمكين الفرد من رسم حدود واضحة، واسترجاع ذاته تدريجيًا، من خلال تعزيز ثقته بنفسه، وتفسير سلوكه ومشاعره، وربطها بجذورها النفسية، التي قد تعود لتجارب سابقة في الطفولة أو علاقات سابقة سامة.

وأضافت الأخصائية بأن هناك حالات لا يمكن فيها قطع العلاقة تمامًا، كالعلاقة بين الوالدين والأبناء أو الإخوة، فإن الحل هنا يكمن في وضع “حدود عاطفية وسلوكية ذكية وصحية”، تعيد التوازن، وتحفظ كرامة الفرد واستقلاليته.

نحو علاقات صحية

العلاقات الصحية ليست خالية من الخلافات، لكنها لا تُبنى على الخوف أو السيطرة أو الإلغاء.
وتشدد الاختصاصية النفسية لوديني على أن“العلاقة الصحية هي التي يستطيع فيها الفرد أن يكون على طبيعته، دون قلق أو شعور بالذنب. هي علاقة يتشارك فيها الطرفان في القرارات والدعم، لا السيطرة والإخضاع.”

ففي النهاية، البقاء في علاقة مؤذية ليس دليل حب، ولا طيبة قلب، بل غياب وعي. وحده الإدراك الحقيقي هو من يعيد للإنسان توازنه، ويقوده إلى التحرر، ليعود إلى ذاته الأصيلة، تلك التي تستحق أن تحب دون شروط، وتحتضن لا تستنزف, فلا تخف من فقدان علاقة ترهقك، بل خف من أن تفقد نفسك وأنت تحاول إنقاذها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

إسرائيل تواصل استهداف الصحافيين: 211 شهيدًا منذ بداية الحرب على غزة

المنشور التالي

جيتكس إفريقيا 2025: مراكش تستعد لاحتضان أكبر تظاهرة تكنولوجية في القارة تحت شعار “الطموح والتغيير”

المقالات ذات الصلة