منذ منتصف السنة الماضية عرفت العلاقات الدبلوماسية بين باريس والجزائر تدهورا غير مسبوق، ولم تتوقف العاصمتان عن مواجهة بعضهما البعض، بداية مع اعتقال الكاتب بوعلام صنصال المحتجز في الجزائر، وانتهاءً في الأيام الأخيرة بشأن المؤثرين الجزائريين الذين تم اعتقالهم في فرنسا بعد تصريحات الكراهية التي عبروا عنها. ويتعلق الأمر بقضية “المؤثر” نعمان بوعلام المعروف باسم “دولامن”، والذي تم ترحيله خلال الأسبوع الماضي من فرنسا وإعادته للجزائر، لتقرر الأخيرة عدم استقباله وإرجاعه إلى فرنسا في الطائرة نفسها.
هاته الأزمة الدبلوماسية، والتي يقوم الرئيس الجزائري بإدامتها وتعزيزها منذ عدة أسابيع، بإعادة أسطوانته المشروخة خلال خطابه للشعب الجزائري يوم 29 دجنبر الماضي أمام البرلمان حين أكد أنه “على الفرنسيين أن يعترفوا بأنهم قتلوا، وذبحوا الجزائريين”.
لكن لا يخفى على أحد بأن السبب الرئيسي في تدهور العلاقات الجزائرية الفرنسية بدأ منذ شهر يوليوز الماضي حين قررت سحب سفيرها من باريس بعد تصريحات إيمانويل ماكرون، الذي اعتبر أن مستقبل الصحراء المغربية ينضوي ضمن إطار السيادة المغربية.
من هنا يأتي نقل معركة “الطواحين” التي تدعمها الجزائر الى فرنسا، وهي رسالة جوابية من قصر المرادية على اعتراف العاصمة باريس للمغرب بالسيادة على أقاليمه الصحراوية.
فمنذ بداية السنة الحالية، تم الإبلاغ عن تصريحات كراهية من ستة مؤثرين جزائريين إلى السلطات الفرنسية، نشروا مقاطع فيديو تدعو إلى مهاجمة المعارضين الجزائريين بعنف وتنفيذ هجمات على الأراضي الفرنسية، حيث تم فتح تحقيق في القضية، خاصة بعد تقديم شكوى من طرف شوقي بن زهرة، المعارض الجزائري اللاجئ في فرنسا.
ففي بريست، تم اعتقال مؤثر جزائري معروف باسم “زازو يوسف”، يوم 3 يناير الماضي بتهمة “التحريض العام على عمل إرهابي ارتكب باستخدام خدمة اتصالات عامة عبر الإنترنت”، بعد أن دعا متابعيه لارتكاب اعتداءات في فرنسا بهدف استهداف المعارضين للنظام الجزائري.
وفي ضواحي غرونوبل، وفي نفس اليوم تم اعتقال عسكري جزائري سابق بتهم “التهديد بالقتل المنجز كتابةً أو بالصورة أو بأي وسيلة أخرى بدافع من العرق أو الإثنية أو الأمة أو الدين”، وفقًا للمدعي العام لمدينة غرونوبل.
وفي ليون، تم الإبلاغ عن ثلاثة مؤثرين آخرين، من بينهم، صوفيا بنلمان، المعارِضة السابقة للنظام الجزائري التي أصبحت الآن تُظهر دعمًا للسلطة القائمة، وقد تم احتجازها في 9 يناير.
ووفقًا لعدة معارضين جزائريين يعيشون في فرنسا واستُجوِبوا من قبل وكالة الأنباء الفرنسية، فإن هذه الرسائل العنيفة بشكل خاص قد تصاعدت بعد تغيير فرنسا لموقفها بشأن الصحراء المغربية. وهو ما أكده شوقي بن زهرة، الناشط الجزائري والذي يتهم بلاده بالقيام بعمليات زعزعة استقرار في فرنسا، خلال مقابلة مع صحيفة لوموند الفرنسية إذ قال إن هؤلاء المؤثرين يعملون تحت توجيه فاعلين مقربين من الحكومة الجزائرية، مثل مهدي غزَّار، رجل أعمال وحليف للرئيس عبد المجيد تبون.
لكن ما حدث خلال 4 يناير الماضي، أوصل العلاقات الفرنسية الجزائرية رسميا إلى الباب المسدود، حيث تم اعتقال مؤثر جزائري في مدينة مونبلييه وتم إيداعه في مركز احتجاز إداري في نيم. الرجل البالغ من العمر 59 عامًا، المعروف بـ “دولامن” على تيك توك، متهم بنشر فيديو دعا فيه إلى “تأديب شديد لرجل يبدو أنه يقيم في الجزائر”، وفقًا للنيابة العامة في مونبلييه. وتم ترحيله إلى بلده الأصلي بعد خمسة أيام، قبل أن يُعاد إلى فرنسا في نفس المساء.
وتعقيبا على هاته الواقعة، أكّد وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايلو، يوم الجمعة 10 يناير في تصريحات إعلامية أنه “من الواضح أن الجزائر تسعى لإهانة فرنسا وقد بلغنا مع الجزائر مستوى مقلق للغاية”.
حرب الطواحين التي “تتفن” في قيادتها جارتنا الشرقية لم تقتصر على المؤثرين، حيث اشتعلت الصحافة الجزائرية، إذ اتهمت صحيفة لكسبريسيون فرنسا بالعودة إلى “شياطينها القديمة”، في حين أدانت الجريدة الرسمية المجاهد ما سمته ب “الإرث الاستعماري الفرنسي”.
مسرحية المؤثرين لإثارة البلبلة في فرنسا لم يعد خافيا على أحد مسبباتها، فالجزائز تواجه اليوم مجموعة من التحديات الداخلية التي تؤثر على استقرارها وتطورها، بما في ذلك التبعية الاقتصادية للنفط، وارتفاع معدلات البطالة، وانتشار الفساد، مما يعمق أزمة الثقة في النظام الجزائري.
كما أن اختيار فرنسا للمغرب كشريك استراتيجي يعكس تحولًا مهمًا في العلاقات الدولية، حيث يأتي في سياق الاستقرار السياسي الذي يتمتع به المغرب مقارنةً بالجارة الشرقية وباقي دول المنطقة، بالإضافة إلى التعاون الأمني والاقتصادي المتزايد بين البلدين.
وفي الوقت الذي “تبدع” فيه جارتنا الشرقية في الهروب إلى الأمام بخلق معارك وهمية، يحرص المغرب على اختيار شركائه الاستراتيجيين وفق رؤيته ومصالحه، وبدون “الخْرُوج للْعِيب” مع جيرانه.