ذ.كمال كحلي إستشاري في الرقمنة والذكاء الإصطناعي
لم يعد الفضاء الرقمي مجرد أداة للتواصل أو الترفيه، بل تحول إلى فضاء عمومي جديد تُبنى فيه الهويات، وتُدار من خلاله النقاشات العمومية، وتتبلور داخله توجهات الرأي العام في علاقة جدلية مع السياسات المحلية والدولية، جيل Z، الذي وُلد ونشأ في قلب الثورة الرقمية، هو النموذج الأوضح لهذا التحول؛ فهو يعيش في عالم هجين تتقاطع فيه الحدود بين الواقعي والافتراضي.
هذا التحول أثار نقاشًا فلسفيًا وفكريًا عميقًا حول هوية الإنسان في زمن الرقمنة. في كتابه الإنسان الرقمي والحضارة القادمة، يطرح دانيال كوهين سؤالًا جوهريًا: هل ما زال الإنسان هو نفسه في عصر الرقمنة، أم أننا أمام ولادة كائن جديد؟ بالنسبة لجيل Z، يبدو الجواب أكثر وضوحًا، إذ إن حياتهم الترفيهية والتعليمية والاجتماعية وحتى المهنية تجري منذ البداية في بيئة رقمية متكاملة، ما يجعل مواطنتهم تتشكل داخل فضاء مزدوج يجمع بين الواقعي والافتراضي.
وبالعودة إلى المواطنة في معناها التقليدي، فهي العلاقة القانونية والسياسية التي تربط الفرد بوطنه وما يترتب عنها من حقوق وواجبات. في الدساتير والمواثيق الدولية، المواطنة تعني التمتع بالحقوق المدنية والسياسية مقابل الالتزام بالواجبات. وفي السياق المغربي، نص دستور 2011 على عدم التمييز في الحقوق والمساواة بين جميع المواطنين والمواطنات، مؤكدًا أن المواطنة إطار جامع يقوم على التوازن بين الحقوق والحريات من جهة، والواجبات والالتزامات من جهة أخرى.
لكن مع التحول الرقمي، ظهر بعد جديد هو المواطنة الرقمية، فقد عرفها المجلس الأوروبي سنة 2019 بأنها القدرة على الانخراط الإيجابي، النقدي والمسؤول في البيئة الرقمية بممارسات تحترم الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان. هذا التعريف يعكس أن المواطنة الرقمية ليست مجرد امتداد تقني للمواطنة الكلاسيكية، بل فضاء جديد لصون الحقوق وحماية الهوية الوطنية والمشاركة الفاعلة في الشأن العام. وبالنسبة لجيل Z، فهي ليست اختيارًا بل واقع يومي وهوية ثانية لا تنفصل عن حياتهم الواقعية.
غير أن هذه المواطنة تواجه تحديات معقدة، فالخوارزميات التي تدير المنصات الكبرى ليست أدوات محايدة، بل صيغت مسبقًا وفق أهداف وسياقات أحيانًا تعكس مصالح اقتصادية وثقافية وسياسية لشركات كبرى ولجهات خارجية، وهي لا تكتفي بتنظيم تدفق المعلومات، بل تعيد تشكيل اهتمامات المستخدمين وتوجه سلوكياتهم، لذلك تُفضل المحتوى السطحي والمثير على حساب النقاشات الجادة، مما يفرغ الفضاء الرقمي من طابعه الموضوعي، وإلى جانب ذلك، تنتشر الأخبار الكاذبة وخطاب الكراهية بسرعة، وتتعرض الهويات الرقمية للاستغلال التجاري والسياسي، بينما تظل الفجوة الرقمية ومستوى اليقظة الرقمية قائمين بين من يملكون الكفاءات الرقمية ومن يفتقدونها.
في مواجهة هذه التحديات، يتعين أن نعيد التفكير في معنى أن يكون المرء مواطنًا رقميًا، فالمواطنة الرقمية هي استخدام واعٍ ومسؤول للتكنولوجيا، يوازن بين الحقوق والواجبات، هي المشاركة المواطنة في النقاشات الرقمية، إنتاج محتوى هادف يعكس القيم الوطنية والإنسانية، والالتزام بالتعلم المستمر والتفكير النقدي. جيل Z بحكم حضوره القوي في المنصات الرقمية هو الأكثر عرضة لهذه التحديات، لكنه في الوقت نفسه الأقدر على تحويلها إلى فرص إذا فطِن لذلك ومُنح الأدوات والدعم اللازم.
وهنا يبرز دور الأسرة في المواكبة لا في المنع، من خلال تشجيع الحوار ووضع قواعد رقمية متوازنة، ودور المدرسة في إدماج التربية الرقمية ضمن المناهج لتقوية الحس النقدي وحماية الهوية الرقمية، ودور المجتمع المدني في نشر الوعي ومكافحة التضليل، ودور الدولة في وضع تشريعات تحمي الحقوق الرقمية وتربطها بالحقوق والواجبات الدستورية وتسخير الإمكانات وتوجيه السياسات لتنمية بنية تحتية رقمية قادرة على الإستيعاب والمواكبة.
أما على المستوى الوطني، فإن المواطنة الرقمية تعني أيضًا الوفاء للوطن داخل الفضاء الافتراضي، فالمواطن الرقمي مدعو إلى الدفاع عن صورة بلده وهويته، واحترام قوانينه وتشريعاته، والتحلي بالصدق في تبادل المعلومات، وتجنب كل ما يسيء للثوابت الدستورية الجامعة، وهي تعني كذلك المساهمة في رفع مكانة الوطن عبر إنتاج محتوى إيجابي، وتطوير المعرفة الرقمية والأمن السيبراني لحماية الذات والمجتمع، والتعامل المسؤول مع الخدمات الرقمية العمومية، إنها امتداد للمواطنة الواقعية، لكنها تتخذ اليوم أشكالًا جديدة تجعل الحرية الرقمية مرتبطة بالانتماء والمسؤولية الوطنية.
صحيح أن جيل Z معرض لتحديات كبرى في فضاء رقمي مفتوح ومتغير بسرعة فائقة، لكن يعتبر كذلك جيل الفرص، فقد أثبت أنه قادر على الإبداع الرقمي، وعلى إطلاق مبادرات مجتمعية وبيئية وتعليمية عبر الفضاء الرقمي، ومن هنا فإن الرهان الحقيقي هو تجنب الأزمات بحس استباقي،عبر تمكين هذا الجيل من أدوات الحماية والتفكير النقدي، وفي بناء عقد اجتماعي رقمي جديد يقوم على الحرية والمسؤولية، وعلى الحقوق بقدر ما يقوم على الواجبات.
فالفضاء الرقمي يمكن أن يكون امتدادًا للفضاء العام في تكامل ايجابي، إذا ما أحسن جيل Z استعماله وأحسنت الدولة والمجتمع مواكبته، وعندها تتحول المواطنة الرقمية من مصدر قلق إلى فرصة لتجديد القيم الوطنية والإنسانية، ولتعزيز الكرامة والمشاركة الموضوعية في زمن تتسارع فيه التحولات.