جنود، لكن لا ميدان لهم سوى المدرجات، ولا سلاح في أيديهم سوى القصائد التي تهتف بها الحناجر، والدخان الذي يعلو من الشهوب الاصطناعية. يلبسون قميص الفريق و”الإشاربات” و”القبعات” كما يلبَس الدرع، ويتقدّمون صفوف “الكورفا” كما لو أنهم في جبهة معركة لا تُخاض إلا بالولاء والعشق اللامشروط. هم جنود لا يسفكون الدم، بل يسيلون الحبر واللون والنغمة على جدران الملاعب.
ليس الألتراس (المتطرفين باللاتينية) في المغرب مجرد مشجعين فحسب؛ بل هم قبائل حضرية جديدة، تشكلت على إيقاع الطبول وصوت الصفارات، وصاغت لنفسها دستورا من العزة والكرامة والانتماء. في زمن فقد فيه الكثيرون إيمانهم بالرموز، اختاروا كرة القدم معبداً، والمدرج ساحة للمعركة، والصوت سلاحا. هؤلاء هم “جنود الكورفا”…شباب يؤمنون أن التشجيع ليس فعلا مناسباتيا، بل أسلوب حياة، ورسالة تتجاوز حدود المستطيل الأخضر…فهم كتائب من نار وعناد، تقاتل من أجل الشغف، وتغني من أجل أن تسمع.
من العالم إلى إيطاليا… إلى تونس… فالمغرب
لم تكن الألتراس اختراعا مغربيا خالصا، لكنها حين دخلت، تعرّبت… تمغرَبت… وتماهت مع نبض الشارع المغربي. فقد بدأت كل القصة من بعيد، من أوروبا، حيث ظهرت أولى البذور في المجر عام 1929 ثم نمت في البرازيل تحت اسم «التورسيدا» خلال الأربعينيات، قبل أن تنتقل إلى أوروبا الشرقية وإيطاليا، مهد الألتراس الحديث. وهناك وُلد أول ألتراس رسمي سنة 1963، في بلاد الكالشيو، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الـ«كورفا»; وهو منطقة مميزة داخل المدرجات وذلك المنحنى خلف المرمى, اختارته مجموعات الألتراس ليكون مكانا خاصًا للتشجيع والمؤازرة, يبتعد عنه المشجعون الكلاسيكيون وتنخفض فيه أسعار التذاكر، وهو المنطقة العمياء أو الكورفا Curva بالإيطالية والفيراج Virage بالفرنسية.ويكون في كل ملعب جهتين متقابلتين، جهة الشمال تسمى كورفا نورد Curva Nord، وجهة الجنوب تسمى كورفا سود Curva Sud.


أما عربيا، فالمحطة الأولى للألتراس كانت “تونس”. فقد كان جمهور النادي الإفريقي سباقا بتأسيس مجموعة “الأفريكان وينرز” سنة 1995. ومن ضجيج مدرجات تونس، حملت الفكرة معها رائحة الدخان والأهازيج إلى المغرب، مع تنقلات الأندية التونسية ومواجهاتها ضد الفرق المغربية. وهكذا، ومع كل صافرة بداية، كان هناك شيء جديد يُولد في المدرجات المغربية, وهكذا كان الجمهور التونسي حاملاً رئيسياً للفكرة، مستلهماً بدوره الحركية الإيطالية”
لا كليك سيلتيك، لا كليك ميلان، لا كليك بورتو… هوية أوروبية بنكهة مغربية

قبل نشأة الألتراس كمفهوم في المغرب، كان هناك مشجعون اختاروا التشجيع بأسلوب مختلف, وفي تصريح لTHE PRESS أفاد الصحافي الرياضي المتخصص هشام رمرام بأن المجموعات كانت تجسد حبها لفريقها المغربي المفضل بربطه بفريق أوروبي يشترك معه في ألوان القميص، وهكذا ظهرت وسط جمهور الرجاء “لا كليك سلتيك”، الفريق الاسكتلندي الشهير الذي يلعب هو أيضا بقميص باللونين الأخضر والأبيض، أما مجموعة من جمهور الوداد اختارت لنفسها اسم “لا كليك ميلان”، بما أن الفريق الإيطالي بالإضافة إلى اللون الأسود فإن قميصه يحمل اللون الأحمر. وفي طنجة سارت مجموعة مشجعي اتحاد طنجة على المنوال ذاته وهي تربط اسم فريقها ب”إفسي بورتو” البرتغالي، صاحب القميص الأزرق والأبيض، فيما كانت مجموعة من جمهور الجيش الملكي تستعمل أقمصة “نيميخين الهولندي”. وهكذاكانت الإرهاصات الأولى لهوية ألتراسية لم تتضح بعد، لكنها مهدت لظهور الكيانات المنظمة لاحقاً.
طنجة، البيضاء، الرباط… من رفع “الباش” ومن رسميا تأسس أولا؟
يقول الصحافي هشام رمرام أن تاريخ نشأة الألتراس في المغرب يشكل موضوعًا خلافيًا بين أبرز المجموعات التي تتنازع عن أسبقية التأسيس، حيث تتعدد الروايات وتختلف الوقائع حسب زاوية النظر والمصدر المرجعي. ففي حين تعلن مجموعة “غرين بويز” المساندة للرجاء الرياضي عن نفسها كأول ألتراس مغربي نشأ صيف 2005، فإن هذه الرواية تُقابل برفض قاطع من طرف مجموعات أخرى كـ”ألتراس عسكري” المناصرة للجيش الملكي، و”وينرز” المناصرة للوداد الرياضي، واللتين تستندان في موقفهما إلى كونهما أول من باشر فعل “الباشاج”، أي تثبيت الباش الرسمي للمجموعة في المدرجات (علم المجموعة، رمزها، شرفها، وغالباً يُدخل إلى الملعب بحذر شديد)، وهو الطقس المؤسس لوجود الألتراس ككيان منظم. ومن جهة أخرى، تبرز “هيركوليس” المساندة لإتحاد طنجة كطرف رابع في هذا الجدل، مدعية تأسيس أول مجموعة ألتراس في المغرب سنة 2003، قبل أن يتبلور المفهوم بصيغته الحديثة في مدرجات الفرق الكبرى.




من جهة, لم يحسم الباحث حسن بورحيم، في كتابه “الألتراس في المغرب”، في أحقية أي طرف بهذا السبق، لكنه يسلط الضوء على ترتيب زمني دقيق، يشير فيه إلى أن “عسكري”، ثم “وينرز”، فـ”لوس ماتادوريس” كانوا أول من رفعوا الباش الرسمي داخل الملاعب، بينما لم تدخل “غرين بويز” هذه المرحلة إلا سنة 2006، رغم ظهورها السابق في المدرجات. ويذهب بورحيم إلى أن تسجيل الحضور الرسمي لا يتحدد فقط بتسمية المجموعة أو إعلانها، بل كذلك بممارساتها الرمزية داخل المدرج، وعلى رأسها “الباشاج”.
وفي المقابل، يقدم الباحث حمزة الكندي في كتابه “الألتراس بالمغرب: العنف والسلطة والسياسة” رواية مغايرة، تربط الانطلاقة الفعلية للحركية بتاريخ 24 شتنبر 2005، خلال مباراة الرجاء ضد النجم الساحلي، ضمن دوري أبطال إفريقيا, حين رفعت “غرين بويز” أول “تيفو” يحمل اسمها في مدرجات “المكانا”، مما اعتُبر آنذاك أول تعبير جماهيري منظّم يحمل سمات الألتراس. ويضيف الكندي أن الاجتماع التأسيسي الرسمي للمجموعة تم لاحقًا في 24 نونبر من العام نفسه. غير أن “ألتراس عسكري” تتمسك بتاريخ 22 أكتوبر 2005، حين وُضع باشها في ملعب سانية الرمل خلال مواجهة المغرب التطواني، وتُؤكد أن كلمة “Ultras” ظهرت لأول مرة مكتوبة على لافتة في هذا اللقاء، معتبرة بذلك أن لحظة التأسيس الرسمية لحركة الألتراس بالمغرب تعود إليها, ثم تليها “الوينرز ” التي رفعت أول باش رسمي لها بتاريخ 13 نونبر 2005 في المباراة التي فاز بها الوداد على نادي الجمعية السلاوية آنذاك.
ومن خلال تقاطع هذه المعطيات، يخلص الكندي إلى تمييز مهم بين النشأة غير الرسمية التي تقترن بـ”غرين بويز”، كحراك أولي، وبين لحظة الميلاد الرسمي التي ارتبطت بألتراس “عسكري”، بما يجعل التأسيس الفعلي لحركة الألتراس بالمغرب مركبًا، متعدد الطبقات، ومفتوحًا على قراءات متباينة.
وهكذا، كان دخول الألتراس إلى المغرب أشبه بانفجار رمزي، لم يكن وليد لحظة واحدة، بل تراكم من الطقوس والحكايات والشغف الجماعي. غير أن النشأة لم تكن سوى البداية. فمع مرور السنوات، تحولت المجموعات من كيانات مشجعة إلى منظومات اجتماعية، لها أعرافها الصارمة، ومصطلحاتها الخاصة، وتمويلاتها الذاتية، وعلاقاتها المعقدة بالسلطة والجمهور والإعلام. في المقال المقبل من سلسلة “جنود الكورفا”، سنغوص في قلب هذه العوالم الداخلية: كيف يُموَّل التيفو؟ من يضع الشيفرات؟ ماذا يعني “كابو” و”كراكاج” و”باشاج”؟ وما الذي يُحرّك هذه الجيوش من العشق المنظم؟