جنود الكورفا 2: لغة خاصة, دستور صارم, وتمويلات ورسائل مستقلة

في المدرجات، هم أكثر من مجرد جمهور يتابع المباراة، هم “جنود الكورفا” الذين اخترعوا لغة خاصة بهم، يعبرون من خلالها عن هويتهم، مواقفهم، ورسائلهم الرياضية, السياسية والاجتماعية. هتافهم عمل جماعي، أعرافهم طقوس شبه مقدسة، وراياتهم امتداد لهوية جماعية تتخطى حدود المستطيل الأخضر. هنا، التشجيع ليس فعلا عاطفيا فقط، بل انتماء, ولاء وخطاب.

وكما يوضح الصحافي هشام رمرام في حديثه لموقع THE PRESS أن“الانتماء لمجموعة ألتراس ليس انخراطا عاطفيا فقط، بل التزام بقواعد صارمة وغير مكتوبة تلزم كل عضو بالانضباط الكامل. وما يميزهم عن الجمهور التقليدي هو هذا الإيمان الجماعي بأنهم جزء من المعادلة الثقافية والسياسية والاجتماعية للبلد”.

ومن هنا، نبدأ في استكشاف عالم الألتراس: من المصطلحات التي يختصون بها، إلى الأعراف التي تحدد سلوكهم، مرورا بتمويلاتهم المستقلة، وصولا إلى الرسائل السياسية والاجتماعية التي يعبرون عنها داخل وخارج الملاعب.

مصطلحات لا تترجم… لغة الألتراس الخاصة

لكل ثقافة لغتها، وللألتراس قاموسهم الخاص أيضا. مصطلحات تشكل نسيجا مترابطا يعكس قوتهم وثقافتهم. إنها ليست مجرد كلمات، بل هي أدوات للانتماء، التنظيم، والإبداع الذي يبرز التزام الألتراس الكامل بفريقهم ورسالتهم.ومن أبرز هذه المصطلحات نجد:

“الباش”(Bâche)، الذي يعتبر الرمز الأساسي للمجموعة, فهو الراية التي تحمل اسمها ورمزها، وتعلق في المدرجات المخصصة للألتراس الذي ينتمي إليه الفريق, ويحافظ على الباش الرسمي بحذر شديد، لا يُخرج من المدينة إطلاقا، وتُعامل حركته بسرية واحتراز شديدين، إذ إن سرقته تُفضي إلى إعلان حلّ المجموعة كاملة، وخروجها من عالم الألتراس نهائيًا وانتصار رمزي للخصم, فهو إذن “شرف الألتراس”. وبجانب الباش الرسمي، هناك أيضا باش الترحال الذي يرافق الألتراس في تنقلاتهم إلى المباريات، سواء كانت محلية أو دولية، من أجل الوفاء الكامل والانتماء العميق.

و”الكابو”(Capo) فهو قائد الأوركسترا الجماهيرية، المسؤول عن تنظيم الهتافات والأغاني وحركات الأيدي التي تضمن التنسيق بين الأفراد في المدرج. ويكمن دور الكابو في إشعال الحماسة بين الجماهير، يصيح فتصيح المدرجات خلفه, هو من يقود الأغنية، ويضبط موجات الحماس. فالكابو إذن هو الرابط الأساسي بين الألتراس والمباراة، حيث يشعل الأجواء ويقود الجماهير في كل لحظة.

أما “الكراكاج” (Craquage) فيعتبر من أبرز أشكال التعبير البصري التي تستخدمها الألتراس لإضفاء الإثارة على المباراة, حيث يعتمد على الألعاب النارية والشعلات أو الشهوب الإصطناعية (الفلام) التي تضيء المدرجات وتخلق أجواء حماسية تكرس الوفاء للنادي وتظهر الالتزام الكامل بروح الجماعة وتجعل المباراة لحظة لا تنسى.

الكورتيج (Cortège) وهو المسيرة الجماعية المنظمة التي يخرج فيها الأعضاء خلف الباش في طريقهم إلى الملعب، وتكون عادة محمية ومنضبطة، ولا يسمح لأي فرد باختراقها أو خرق نظامها.

و”التيفو”(Tifo) هو تعبير آخر عن هوية الألتراس، إذ يتخذ شكل لوحات ضخمة من القماش أو البلاستيك التي يرفعها الأعضاء في المدرجات. ويهدف التيفو إلى نقل رسائل معينة، سواء كانت سياسية، اجتماعية، أو رياضية، ويظهر إبداع الألتراس في التنسيق الفني. يتم رفع التيفو عادة في بداية المباراة، لكن بعض المجموعات تبتكر رفعه في أوقات متنوعة أثناء المباراة، مما يضفي طابعا مميزا على كل تيفو.

وأخيرا، “الكورفا”(بالإيطالية)، التي تعرف أيضًا بالفيراج (بالفرنسية)، فهي المدرجات التي تقع خلف المرمى وتختارها الألتراس لتكون مركزا للتشجيع المستمر. إنها المساحة المقدسة التي تُقام فيها طقوسهم، وتُبثّ منها رسائلهم.

وفيما يتعلق ب”الطوب بويز” (Top Boys) أو (noyau)، فهم الأعضاء الأكثر تأثيرا داخل المجموعة، حيث يعتبرون المسؤولين عن قيادة الأنشطة التنظيمية مثل إعداد التيفو، تنظيم الرحلات، والإشراف على موارد التمويل. فهؤلاء الأعضاء لديهم دور محوري في ضمان استمرارية وقوة المجموعة، بفضل تنسيقهم المتقن بين الأعضاء والموارد المتاحة.

دستور الألتراس..أعراف مقدسة لا تُدوّن

في عالم الألتراس لا شيء يترك للصدفة, تبنى المجموعات على نظام داخلي صارم وإن بدا فوضويا من الخارج. دستور، لم يُكتب، لكنه مُلزم، ويحدد السلوك اليومي لأعضاء الألتراس :

ففي ثقافة الألتراس، لا ينظر إلى المباراة كمجرد حدث رياضي، بل كطقس جماعي يمارس فيه الانتماء المطلق. والحضور إلى المدرج يعني الوقوف والتشجيع والغناء طيلة التسعين دقيقة دون انقطاع، أيا كانت نتيجة اللقاء, ولا يسمح بالجلوس، ولا يتقبل الصمت أو التراجع في الهتاف حتى أثناء الهزائم الثقيلة، إذ يعد التشجيع واجبا مقدسا بلباس موحد، بقيادة الكابو الذي يسير هذا الطقس من منصة مرتفعة، مشرفا على حركة الأيادي والهتافات، ضامنا انسجام المئات ككتلة واحدة. فالتشجيع هنا ليس تعبيرا عن متعة، بل فعل انضباطي جماعي يشبه العرض العسكري في دقته وصرامته.


الألتراس لا يعرفون الفردية. إذ لا يسمح لأعضاء المجموعة بالظهور الإعلامي أو تقديم أنفسهم كأشخاص مستقلين، لأن القيمة الفردية تقاس فقط بمدى إخلاص الفرد للجماعة. الجميع ملثم، الجميع سواسية خلف “الباش”. ولا يعتبر العضو كامل العضوية ما لم يشارك في تمويل الدخلات، ويحفظ أعراف المدرج عن ظهر قلب, والغياب عن الاجتماعات، والتهاون في الالتزامات، أو الخروج عن القواعد قد يُقصي العضو من المجموعة نهائيا. أما الترحال فيعتبر واجبا لا نقاش فيه، سواء داخل البلاد أو خارجها، مهما بلغت التكاليف أو المخاطر, حيث ينظم “الكورتيج” خارج المدينة بدقة وتحت باش المجموعة، في استعراض للقوة والوفاء، يعرف الجماهير الأخرى أن لهذا الفريق أنصارا لا يتخلفون عن أي معركة.


وفي عالم الألتراس أيضا، الشرف له معنى مادي ورمزي. كل منتوج يحمل شعار المجموعة, من وشاح إلى قبعة, يعد أمانة لا يجوز التفريط بها, وإذا سرقت، تعد وصمة عار قد تلاحق صاحبها مدى الحياة, إلى جانب الباش الذي سبق وذكرنا حساسيته. “قوانين غير مكتوبة، لكنها أكثر صرامة من أي دستور”.

التمويل الذاتي..وسيلة صوت مستقل

وفي سياق الأعراف ذاته، تعتمد مجموعات الألتراس تمويلا ذاتيا يضمن لها الاستقلالية التامة عن أي تدخل خارجي كدعم مالي من الأندية، الأحزاب، أو المؤسسات الرسمية. فالتمويل إذا يأتي من عدة مصادر رئيسية، أبرزها بيع المنتوجات الرسمية للمجموعة مثل القمصان، القبعات، والأوشحة التي تحمل تصاميم خاصة تعكس هوية الألتراس، إلى جانب الاشتراكات السنوية التي يدفعها الأعضاء للمساهمة في تمويل الأنشطة.

هذه الاستقلالية لا تقتصر فقط على الجانب المالي، بل هي جزء من فلسفة الألتراس التي ترفض أن تكون أداة بيد أي طرف خارجي. ومن خلال هذا التمويل الذاتي، تضمن مجموعات الألتراس أنها تبقى وفية لرسائلها وأهدافها دون أن تتأثر بأي ضغوطات أو مصالح خارجية.

وإضافة إلى ذلك، يتم تمويل الأنشطة أيضا من خلال المساهمات التطوعية من الأعضاء، الذين يقدمون مبالغ إضافية في الأوقات الخاصة مثل المباريات الكبرى أو أثناء إعداد “التيفو” المعقد. موقف قوي يعكس التزام الألتراس بمبادئ الاستقلالية ويضمن لها أن تبقى صوتا صادقا يعبر عن الجماهير الحقيقية لناديهم.

الرسائل… حين يغني الغضب

إذا كان التشجيع هو الهدف الظاهري، فإن الرسائل هي القلب النابض لثقافة الألتراس. ثقافة حولت مدرجات الملاعب، إلى منصة فنية تعبر عن مواقف سياسية واجتماعية بطرق مبتكرة. فمن خلال التيفوات و الأغاني والشعارات المرفوعة في مباريات كرة القدم، يقوم الألتراس بتوجيه رسائل متعلقة بالقضايا الاجتماعية مثل التضامن مع الشعب الفلسطيني أو الاعتراض على الأوضاع السياسية والاقتصادية الصعبة للمملكة، مثل ارتفاع الأسعار والفساد.

وأشار الصحافي رمرام إلى أن “الألتراس تجاوزوا دورهم التقليدي كمناصرين ليصبحوا فاعلين رئيسيين في نقل رسائل اجتماعية وسياسية”، معبرًا عن قدرة هذه المجموعات على التأثير عبر التعبير الفني داخل الملاعب.وأضاف هشام أن بعد اندلاع حراك 20 فبراير، أصبح الألتراس جزءًا من الحراك الاجتماعي، حيث رفعوا شعارات سياسية تنتقد الفساد وتدعو للتغيير, قائلا: “الألتراس في المغرب أضحوا قوة مؤثرة داخل المشهد الرياضي والاجتماعي، لا يقتصرون على التشجيع بل يسهمون في تشكيل الوعي السياسي والاجتماعي”.

وفي الختام, تحول الألتراس إلى مزيج فني رياضي يتخطى التشجيع التقليدي، ليصبح لغة تعبير حية تصدح بأصوات الجماهير في كل مباراة، وكل تيفو يحمل قصة وأملا في التغيير. ومن خلال مصطلحاتهم وأعرافهم، يثبت الألتراس قدرتهم على التأثير في المشهد الرياضي في المغرب. لكن كيف يتفاعلوا مع الأطراف الخارجية التي قد تتعارض أو تتقاطع مع رسائلهم؟ كيف تصوغ وسائل الإعلام والسلطات رؤيتها عن هذه الحركات التي لا تزال تصر على أن تكون صوتا مستقلا في الساحة الرياضية والاجتماعية؟ في المقال المقبل، سنغوص في العلاقة المعقدة بين الألتراس والإعلام، ونكشف كيف يتعاملون مع الضغوطات والرقابة، ليظلوا حاملين لرسائلهم في عالم يعج بالصراع بين السلطة والحرية.

مقال ذات صلة

جنود الكورفا: من النشأة إلى لحظة الإعلان الرسمي

جنود، لكن لا ميدان لهم سوى المدرجات، ولا سلاح في أيديهم سوى القصائد التي تهتف بها الحناجر،…
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

ولي العهد يترأس مأدبة ملكية احتفاءً بالذكرى 69 لتأسيس القوات المسلحة الملكية

المنشور التالي

النيابة العامة: بلاوي يباشر مهامه ويشيد بمسار الداكي في خدمة العدالة

المقالات ذات الصلة