ثورة ناعمة من قلب المجتمع: حين يصير التخلق مسؤولية الجميع (الحلقة 10 والأخيرة)

الدكتور أحمد أزوغ: أستاذ باحث، مدير ماستر للذكاء الاصطناعي بباريس

بعد أن رسمنا خريطة التخلق في مقالاتنا السابقة، وشخّصنا الدوافع الفردية والمؤسسية، وقدّمنا ميثاقًا أخلاقيًا للتعايش، وسطرنا مقالًا لتنزيل الأخلاق مؤسساتيًا، نختم هذه السلسلة بوقفة عند أهم حلقة في البناء الأخلاقي: المجتمع ذاته.

فإذا كانت الدولة تُسنّ القوانين وتضبط الإيقاع، فإن المجتمع هو من يُضفي على تلك القوانين الروح، ويجعل من السلوك الأخلاقي عادة يومية دائمة. وإذا كان الفرد هو نقطة البداية، فإن المجتمع هو الامتداد الطبيعي لهذا التخلق، فهو من يحتضنه أو يهمشه، يقومه أو يحرفه.

وفي هذا المقال، نفتح المجال أمام أربع قوى اجتماعية قادرة على حمل مشروع التخلق: الأسرة، الحي، الإعلام، والمجتمع المدني، باعتبارها دوائر تأثير مباشرة في حياة المواطنين. فبهذه القوى، ومن خلالها، يمكننا أن نحول التخلق من مجرد خطاب إلى ثقافة حيّة، وسلوك مجتمعي جماعي، ومسؤولية مشتركة.

الأسرة: التخلق بالقدوة لا بالأوامر

تبدأ رحلة التخلق من داخل الأسرة، فهي الحاضنة الأولى للقيم والعادات، وفيها تتشكل البدايات الأولى للضمير الأخلاقي. لكن الأسرة المغربية، مثل غيرها، تواجه اليوم تحديات متراكمة: تغيّر نمط العيش، ضغط الحياة المهنية، اجتياح التكنولوجيا، ضعف صلة الرحم، وتراجع التواصل داخل البيت، ما قلّص حضور الوالدين كقدوة سلوكية حية في حياة الأبناء.

فالطفل لا يتعلّم الصدق أو الاحترام أو المسؤولية من الوعظ المجرد، بل من الملاحظة اليومية: من تصرّف الأب مع الجيران، ومن ردة فعل الأم في المواقف العامة، ومن طريقة الحديث داخل المنزل. فالقدوة هي اللغة الصامتة التي تزرع القيم في اللاوعي، وأخطر ما يمكن أن يفعله الوالدان هو الجمع بين الدعوة إلى الأخلاق والتناقض في التطبيق. بذلك لا يورّثان فقط سلوكًا منحرفًا، بل يطبّعان أبناءهما مع الكذب والنفاق. فالأسرة التي تبرّر لابنها الغش في الامتحان، قد تكون ترمي به إلى مستقبل يضرّ فيه آلاف الأرواح ممن سيخدمهم أو يتولى أمرهم لاحقًا.

إن استعادة مكانة الأسرة كرافعة للتخلق تبدأ أولًا باستيعاب دورها المحوري في المجتمع، ثم بتمكين الوالدين من أدوات التربية الحديثة، وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي، وخلق مساحات حوارية دافئة داخل البيت. كما أن تأهيل المقبلين على الزواج لبناء أسر قائمة على مرجعية أخلاقية لم يعد ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة تربوية مُلحّة لبناء جيل متزن سلوكيًا وقيميًا.

مقترحات للتنزيل:

● إدراج التربية الأسرية في برامج الإعداد للزواج عبر المساجد والمجالس العلمية والجامعات.
● إنشاء مراكز إرشاد أسري محلية ترافق الآباء في تربية الأطفال والتعامل مع المراهقين.
● تخصيص برامج إعلامية منتظمة تبرز نماذج أسرية ناجحة وتناقش تحديات الحياة اليومية.
● تفعيل دور المرشدين الاجتماعيين في الأحياء والمؤسسات التعليمية لدعم الأسر.
● إصدار دليل وطني للتربية على القيم في البيت، موجّه للآباء والمربين.

الحيّ: من سكن عابر إلى نواة للتماسك المجتمعي

بعد الأسرة، يبدأ الطفل في اكتشاف المجتمع من خلال حيّه. ففي هذا الفضاء يتكوّن لديه أول تصوّر عن السلوك العام، ويتعلم كيف يتفاعل مع محيطه، ويلاحظ الشاب القواعد التي تحكم العلاقات بين الناس. لكن الأحياء السكنية في المغرب، وخصوصًا في المدن الكبرى، تعاني غالبًا من ضعف الروابط الاجتماعية، وتآكل الحسّ الجماعي، وغياب الفضاءات المهيأة للتفاعل الإيجابي. فبعد أن كان الجيران، في المدن العتيقة والبوادي، يُشاركون الأبوين مسؤولية تربية أبناء الحي، تحوّل الحي اليوم إلى مجرّد فضاء عبور، لا نواة تماسك اجتماعي. وغابت عنه شخصيات الكبار والآباء، ليفسح المجال لشبابٍ تائهين، هاربين من ضيق البيوت إلى فسحة الشارع.

ولعل التجارب المحلية أو الدولية التي أعادت الاعتبار للحي كفضاء تربوي واجتماعي، عبر جمعيات الجوار، والمراكز المجتمعية، وأندية الأحياء، تُثبت أن تقوية النسيج الأخلاقي يمر عبر تفعيل الحي كمؤسسة غير رسمية للتنشئة. فحين يُسترجع الحي كمكان للعيش لا فقط للسكن، تنشأ آليات الرقابة الاجتماعية، وتُبعث روح المساعدة، وتُرصد الانحرافات مبكرًا.

ولكي نعيد للحي هذه الوظيفة التربوية، نحتاج إلى إعادة تصميم سياسات التهيئة والبرمجة المجالية على أساس القرب الاجتماعي، وليس فقط المعايير التقنية. ويجب أن نوفّر فضاءات للقاء، ومجالات للأنشطة التربوية، ومداخل لتعاون السكان، ليشعر كل فرد أنه مسؤول عن صورة حيّه وسلوك قاطنيه.

مقترحات للتنزيل:

● إنشاء مراكز مجتمعية في كل حي تنظم أنشطة ثقافية وتربوية تشجع على المشاركة المواطِنة.
● دعم الدولة للجان الأحياء ووداديات السكان، بالموارد المادية والبشرية وبالتكوين لتعزيز دورها في تخليق الأحياء.
● إدماج الشباب في حملات الحي النموذجي وتشجيعهم على مشاريع صيانة وتجميل المحيط.
● تحفيز التعاون بين الساكنة والسلطات المحلية عبر منصات رقمية لرصد المشاكل السلوكية ومعالجتها.
● إعادة إحياء الحرف التقليدية والأنشطة الترفيهية في الأحياء القديمة لإحياء روح الانتماء والجَمال السلوكي.

الإعلام والمنصات الرقمية: من الإثارة إلى التأثير

وإذا كان للحي الواقعي دور في تشكيل السلوك فإن هذا الدور بدأ يتلاشى مع تعاظم دور الإعلام سواء التقليدي أو الرقمي. فقد غدا اليوم أكبر رفيق للشباب، وأهم مؤثر في السلوك الجماعي، فهو من يغذي المتخيَّل العام، ويضبط المعايير السائدة، ويؤثر على تمثلات الناس للنجاح، والجمال، والسلطة، والحق. لكن أغلب ما يُبث اليوم، خصوصًا في المنصات الرقمية، يتسم بالإثارة السطحية، والتفاهة المنتشرة، وغياب الخط التحريري القيمي الذي يُوازن بين الحرية والتأثير الأخلاقي.

ومع الطفرة التكنولوجية والذكاء الاصطناعي، صار المحتوى ينتشر بشكل غير مسبوق، دون رقابة أو مساءلة. وهكذا، تُروَّج أنماط سلوكية هدامة، وتُقوَّى نزعات التنمر، والعنف الرمزي، والأنانية، في غياب رؤية إعلامية تسائل الأثر التربوي قبل نسب المشاهدة.

لكن الإعلام يمكن أن يتحول إلى قوة بناء، عبر الصحافة الجادة، والمحتوى الرقمي الهادف، وبرامج الواقع التي تُبرز القيم، حتى تصبح الشاشات مدارس غير رسمية للتخلق، وتُكافئ المنصات التي تنشر الخير لا الفتنة. كما ينبغي أن تُدمج الثقافة الرقمية في التربية الوطنية، لتكوين مواطن رقمي خلوق، مسؤول، ومُنتِج.

مقترحات للتنزيل:

● دعم الإنتاج السمعي البصري الهادف بقصص واقعية تبرز القدوة وتُحيي القيم.
● تشجيع منصات التواصل على اعتماد “شارات القيم” كمؤشرات لجودة المحتوى السلوكي.
● إدراج التربية الإعلامية والرقمية في البرامج الدراسية من الابتدائي إلى الجامعة.
● إنشاء جوائز وطنية لأفضل محتوى أخلاقي رقمي (فيديوهات، بودكاست، رسوم…).
● تحفيز الشركات الراعية على تمويل مشاريع إعلامية تخدم التخلق الجماعي.

المجتمع المدني: من النشاط التطوعي إلى المواطنة الفاعلة

يمثل المجتمع المدني أحد المحركات الأساسية لأي نهضة أخلاقية شاملة، ليس فقط عبر أنشطته الخيرية والتضامنية، بل أيضًا من خلال قدرته على التأطير، والمراقبة، والتوجيه القيمي. وفي السياق المغربي، تتوفر اليوم آلاف الجمعيات النشيطة، غير أن عددًا قليلاً منها يشتغل بمنطق التأثير المواطناتي الحقيقي، ويربط بين القيم، والسياسات، والتحول الاجتماعي الملموس.

لقد ظهرت خلال السنوات الأخيرة مبادرات مواطنة رائدة، مثل المركز المغربي للمواطنة، الذي يسعى إلى تتبع مؤشرات القيم في الفضاء العام، وتقديم بدائل ومقترحات عملية لتعزيزها. وفي السياق نفسه، تبرز الحاجة إلى تأطير جمعيات المشجعين الرياضية لتصبح فضاءات لنشر الروح الرياضية، والتسامح، والانضباط الجماعي، بدل أن تكون بؤرًا للتعصب أو التوتر.

كما أن الجمعيات الشبابية التي تدمج بين الفن، والمبادرات المواطنة، والمضامين الثقافية الهادفة، تُشكّل اليوم رافعة واعدة لإشاعة الحس الأخلاقي وسط الأحياء والمدارس والمنصات. فتحفيز هذه الجمعيات وتمكينها من الموارد والخبرة سيساهم في بثّ روح التخلق بطريقة غير مباشرة، عميقة التأثير، ومستدامة في أثرها.

إن الرهان اليوم ليس فقط على توسيع رقعة الجمعيات، بل على تأهيلها ودمجها في السياسات العمومية ذات البعد القيمي، ومنحها سلطة اقتراح ومراقبة وتفعيل. فكلما تحوّل المجتمع المدني من دور المُطالب إلى دور المُبادر، أصبح شريكًا حقيقيًا في بناء مغرب الأخلاق الذي ننشده.

مقترحات للتنزيل:
● دعم جمعيات رصد المواطنة بالمواكبة العلمية والتقنية في مشاريع التقييم والتأثير المجتمعي.
● إشراك المجتمع المدني في مراجعة وتقييم السياسات ذات الأثر الأخلاقي والتربوي.
● تأهيل روابط المشجعين رياضيًا وأخلاقيًا ضمن برنامج وطني يعزز الروح الرياضية والمواطنة.
● إدماج روابط المشجعين في الأنشطة المدرسية لترسيخ قيم الاحترام والانضباط والتسامح.
● دعم الجمعيات الشبابية الثقافية والرياضية والاجتماعية المروّجة لقيم الإبداع الخلوق والتعبير المسؤول.

خاتمة
بهذا المقال، نكون قد استكملنا خارطة طريق التخلّق، من جذوره الفردية إلى مؤسساته الكبرى، وصولاً إلى قلبه المجتمعي. حاولنا أن نفتح النقاش، ونقترح السبل، ونقدّم رؤية إصلاحية أخلاقية شاملة.

إن المغرب الأخلاقي الذي نحلم به ليس طوباويًا ولا مستحيلاً، بل هو مشروع مشترك يحتاج إلى ضمير وقرار، قدوة وخطة، فرد ومؤسسة، نية وتفعيل.

فإذا كنا اليوم نبني مطارات وملاعب وموانئ استعدادًا لموعد 2030، فلنبنِ معها ضمائر يقِظة، وقدوات مُلهِمة، ومجتمعًا يُحسن استقبال العالم، لا بمظاهر البنية فقط، بل بأخلاق البناء.

فلنُراكم هذه اللبنات، ولنُطلق من الأحياء والأسر، من الشاشات والقصائد، من المنابر والمدارس، ثورة ناعمة عنوانها: “نهضة الأخلاق… من نهضة العُمران إلى نهضة الإنسان”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

مهن غابت هذا العيد: “فندق الخروف”.. مآوى الأضاحي الذي اختفى مع غياب الشعيرة

المقالات ذات الصلة