في سياق النقاش الوطني حول فعالية الاستثمار العمومي وجدواه التنموية، أصدر مركز الاستشراف الاقتصادي والاجتماعي، تحت إشراف رئيسه علي الغنبوري، تقريرا جديدا في شتنبر الجاري تحت عنوان: ” الاستثمار: التوجهات, النتائج والتحولات”. ويقدم هذا التقرير قراءة معمقة لمسار الاستثمار بالمغرب، متوقفا عند ديناميته خلال العقدين الأخيرين، ومردوديته الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى الإشكالات البنيوية التي تعيقه، وصولا إلى التحولات الجديدة التي جاءت مع ميثاق الاستثمار لسنة 2023، وما يحمله من رهانات استراتيجية.
فمنذ مرحلة ما بعد الاستقلال، اعتمد المغرب على الدولة كمستثمر أول، مخصصا ما يقارب 30% من الناتج الداخلي الخام للاستثمار العمومي، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالدول ذات الدخل المتوسط. غير أن هذه الجهود الكمية لم تترجم إلى نتائج نوعية فعالة، حيث ظلت مردودية الاستثمار ضعيفة، وأثره على التشغيل والنمو محدودا.
وأوضح التقرير, الذي توصلت THE PRESS بنسخة منه, أن المغرب انتقل في العقدين الأخيرين من مرحلة التأسيس للبنيات التحتية إلى محاولة بلورة رؤية استراتيجية ترتكز على جلب الاستثمارات النوعية وربطها بالتحول الصناعي والاندماج في سلاسل القيمة العالمية. فقد ارتفعت الاستثمارات الإجمالية إلى حوالي 410 مليار درهم سنة 2024، منها 335 مليار درهم عمومي، وهو ما يبرز استمرار هيمنة الدولة على النشاط الاستثماري. ورغم تسجيل 23 مليار درهم من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في السنة نفسها، إلا أن المغرب ما زال يستقطب فقط 0,4% من التدفقات العالمية، أي أقل بكثير من أسواق إفريقية منافسة كرواندا أو مصر.
أما على مستوى القطاعات، فقد برزت الصناعة التحويلية، خاصة السيارات والطيران، كقاطرة للاستثمار، إذ بلغت صادرات السيارات 130 مليار درهم سنة 2024، التي ساهمت في تحقيقها مشاريع كبرى لمجموعات “رونو, “ستيلانتيس” و”بوينغ”, وحافظ المغرب على موقعه كأول مصدر إفريقي. كما استفادت قطاعات الطاقات المتجددة والعقار بفضل مشاريع رائدة كمحطة “نور” بورزازات للطاقة الشمسية ومشاريع الرياح بجهات الداخلة وطنجة وطرفاية من تدفقات معتبرة، فيما شهدت مناطق مثل طنجة، القنيطرة، والنواصر دينامية صناعية متقدمة بفضل ميناء طنجة المتوسط والمنطقة الحرة بالقنيطرة. بالمقابل، ظلت جهات الجنوب الشرقي والوسط الشرقي مهمشة بسبب ضعف البنيات التحتية وتعقيد المساطر العقارية.
ورغم هذه الدينامية، سجل التقرير ذاته محدودية الأثر الاجتماعي، إذ تجاوزت نسبة البطالة 13,3% وطنيا و33% في صفوف الشباب الحضري، فيما تفوق كلفة خلق منصب شغل واحد 500 ألف درهم في بعض المشاريع الكبرى. كما تبقى مساهمة الاستثمار في السيادة الإنتاجية ضعيفة، إذ لا يتجاوز الاندماج المحلي 40%، ما يضع المغرب في موقع “المقاول من الباطن” بدل “الفاعل الصناعي الكامل”.
ولقد توقف التقرير أيضا عند العراقيل البنيوية التي تعرقل الاستثمار، مثل تعقيد الإطار القانوني وتعدد النصوص وغموضها، ضعف فعالية المراكز الجهوية للاستثمار، ثم بطء القضاء في النزاعات العقارية والتجارية، تفاوت العرض الترابي، بالإضافة إلى صعوبة الولوج إلى التمويل البنكي خاصة للمقاولات الصغرى والمتوسطة.
وفي المقابل، أبرز التقرير التحولات التي جاءت مع ميثاق الاستثمار الجديد (2023)، الذي يهدف إلى تعبئة 550 مليار درهم في أفق 2026، منها 350 مليار من القطاع الخاص. ويرتكز الميثاق على قلب المعادلة التقليدية بجعل القطاع الخاص في صدارة الاستثمار، بينما يقتصر دور الدولة على تحفيز وتأهيل بيئة الأعمال وتوجيه الاستثمار العمومي نحو البنيات الأساسية والعدالة المجالية.
كما نص الميثاق على نظام تحفيزي متكامل يصل فيه الدعم العمومي إلى 30% من قيمة المشروع، وإحداث لجنة وطنية للاستثمار لتسريع معالجة الملفات، إضافة إلى إطلاق منصات رقمية وطنية لتبسيط المساطر. وتراهن الدولة من خلال هذه المقاربة على خلق 500 ألف منصب شغل جديد، وتعزيز السيادة الإنتاجية، والانتقال نحو صناعات إستراتيجية مثل الطاقات النظيفة والأدوية والتكنولوجيات الخضراء.
واختتم التقرير بجملة من التوصيات، أبرزها: ترسيخ الاستقرار القانوني والضريبي لبناء الثقة، تسريع ورش تبسيط المساطر الإدارية، تعزيز الجاذبية الاستثمارية للمناطق المهمشة، تشجيع القطاع الخاص الوطني خاصة المقاولات الصغرى والمتوسطة، ربط الاستثمار بالبحث العلمي والابتكار، وتفعيل آليات تقييم المردودية على أساس الأثر التنموي وليس الحجم فقط.
وفي النهاية، يرى الغنبوري وفريقه أن المغرب يعيش لحظة مفصلية لإعادة بناء العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص، وتحويل الاستثمار إلى رافعة حقيقية للنمو الشامل والمستدام، شرط تفعيل الإصلاحات العميقة وضمان العدالة المجالية والاجتماعية.