الصورة لافتة، تكاد تكون مشهدًا مسرحيًّا. حول مائدة غداء دبلوماسي في البيت الأبيض، يستقبل دونالد ترامب خمسة رؤساء دول من غرب إفريقيا: موريتانيا، السنغال، الغابون، غينيا بيساو، وليبيريا. الجو مهيب، والرهانات جسيمة. ومع ذلك، فإن ما استرعى الانتباه لم يكن فحوى النقاشات، بل ملاحظة عابرة من الرئيس الأمريكي؛ فعندما شرع نظيره الموريتاني في خطاب مفعم بالمديح، قاطعه ترامب على الفور قائلاً: “ربما علينا أن نُسرِع قليلاً في هذا الأمر”. كانت الرسالة واضحة: ليس هذا مقام الخطب، بل مقام النتائج.
لم تكن هذه العبارة عرضية، بل تجسيدًا لنهج واقعي صارم يتبناه رئيس يسعى إلى إعادة تشكيل العلاقات بين الولايات المتحدة وإفريقيا. لا مكان بعد اليوم للخُطب البروتوكولية والوعود المجاملة التي لا يُتبعها تنفيذ. ترامب يتحدث عن عقود، تنازلات في مجالات التعدين، مشاريع بنى تحتية، وعوائد استثمارية. أمريكا لم تَعُد تمدّ يد العون؛ بل تطرح صفقة — فإما أن تُؤخذ أو تُترك. وفي هذا السياق الجديد، لم تَعُد إفريقيا تملك ترف التمهّل: عليها أن تُقنع، أن تُغري، أن تُنجز — وفي زمن قياسي.
وقد أدرك الزعماء الحاضرون تغيّر النبرة، فعدّل كلٌّ منهم من أسلوبه. سعى كل واحد إلى تلخيص وتسويق وتثمين بلده في دقائق معدودة، كما لو كان يعرض مشروعًا على مستثمر مستعجل. الأراضي النادرة في موريتانيا، والثروات الزراعية في السنغال، والوعود الطاقية في الغابون — كلها تحوّلت إلى عناصر ضمن عرض ترويجي. في ذلك اليوم، لم تكن إفريقيا قارةً تستجدي التضامن، بل ساحةً تنافسية تسعى لجذب انتباه صاحب دفتر الشيكات المشروط.
لكن، خلف هذا الدرس في الفاعلية، ظهرت أيضًا ملامح انزعاج. فهذا الحدث سلّط الضوء على نقطة ضعف: ذلك الميل الإفريقي التقليدي نحو الإطالة في الخطاب، واللفّ الدبلوماسي، والمبالغة في المجاملة. في عالم صار فجأةً شديد التوجّه نحو المصالح، لم يَعُد لهذه البلاغة وقع يُذكر. فقد كشف ترامب، في بضع كلمات، عن الهوة الفاصلة بين تقليد دبلوماسي جامد، وقواعد لعبة دولية جديدة: القليل من الكلام، الكثير من الإثبات، والتفاوض بلا ارتجاف.
وباختصار، لم يكن ذلك الغداء مجرّد محطة في مسار العلاقات الأمريكية الإفريقية، بل كان كشفًا لحقيقة أعمق: كي تجد إفريقيا لنفسها موطئ قدم في ساحة النفوذ العالمي، لا بد أن تنزع عنها أردية الماضي، وأن تتقن لغة السلطة المباشرة والباردة. لا بإنكار لقيمها، بل بتحويلها إلى قوة استراتيجية. ففي هذا العالم الذي أصبح فيه الصمت أبلغ من الخطابة، لن يكون للكلمة الإفريقية وزنٌ يُعتدّ به، ما لم تصبّ في صلب الموضوع — بكرامة، ولكن بلا مواربة.