مشاريع القوانين المتعلقة بالمنظومة الانتخابية التي قدمها عبد الوافي لفتيت أمام لجنة الداخلية بمجلس النواب خلال الأسبوع الماضي، ليست مجرد تعديل عابر، بل خطوة جريئة لكسر دائرة العبث السياسي التي استهلكت ثقة المغاربة لسنوات. فمنذ فترة طويلة والانتخابات تعيش تناقضها الداخلي: قانون يتحدث بلغة، وممارسات تتحدث بلغة أخرى، والنتيجة كانت دائما واحدة: مؤسسات بتمثيلية ضعيفة، وأحزاب عاجزة، ومواطن غاضب أو غير مبال. لذلك يبدو أن الدولة قررت أخيرا الانتقال من معالجة الأعراض إلى ضرب جذور المرض مباشرة.
فالرسالة واضحة: انتهى زمن المرشحين الذين يدخلون المؤسسات محمّلين بملفات قضائية أو بشبهات عزل، وانتهى زمن الحملات التي يبني فيها البعض حظوظه على الأخبار الزائفة وتضليل الناخبين، وانتهى زمن الإفلات من العقاب في الجرائم الانتخابية. هذه ليست مجرد إصلاحات تقنية، بل إعلان سياسي صريح عن نهاية مرحلة طويلة من التساهل الذي سمح بتفريخ نخب ضعيفة، وشراء ولاءات انتخابية، وتشكيل مؤسسات غير قادرة على الأداء.
لكن الإصلاح، مهما كان قويا، لن يغير الممارسة إذا ظلت الأحزاب على حالها. فقد استنزفت أغلب هذه الأحزاب ما تبقى من رصيد ثقة المواطنين، ولم تعد قادرة على إنتاج نخب جديدة، أو أفكار جديدة، أو حتى خطاب جديد. جلّ ما تفعله هو إعادة تدوير نفس الوجوه ونفس العقليات ونفس الأساليب. لذلك يأتي رفع شروط التأسيس، وتوسيع رقابة المجلس الأعلى للحسابات، وفرض حضور الشباب، كرسالة غير معلنة تقول: من لا يستطيع تجديد نفسه سيتجاوزه الزمن، ومن لا يملك امتدادا مجتمعيا لن تنقذه التحالفات ولا الشعارات ولا تكتيكات اللحظة.
وإذا كان مطلوبا من الأحزاب أن ترتقي، فالمطلوب من المواطنين أن يتوقفوا عن لعب دور الضحية. فالعزوف لم يعد موقفا احتجاجيا، بل بات هدية مجانية لمن يتقنون استغلال الفراغ. المواطن الذي يشتكي من سوء ممثليه عليه أن يدرك أن جزءّ من المسؤولية يقع عليه هو أيضا. فالتصويت ليس مجرد واجب، بل أداة ضغط، وسلاح للتغيير، ووسيلة لفرض الجودة بدل الشكوى من غيابها. لا يمكن بناء ديمقراطية بنخب ارتجالية ومواطنين سلبيين. العلاقة بين المواطن والسياسة تبدأ من الصندوق، ومن لحظة تحمل مسؤولية الاختيار.
وبين الدولة التي تحاول إعادة تنظيم قواعد اللعبة، والأحزاب التي يفترض أن تتجدد، والمواطن الذي يملك مفتاح التغيير، بات واضحا أن الزمن السياسي المقبل سيكون مختلفا. فالمرحلة الجديدة لا تحتمل الازدواجية: إما ممارسة سياسية نظيفة تحترم ذكاء المغاربة، أو استمرار الانحدار وفقدان ما تبقى من الثقة. وقانون الانتخابات الجديد مجرد بداية لمعركة أوسع عنوانها الحقيقي هو استعادة هيبة الشأن العام.
المغرب اليوم أمام فرصة نادرة لإعادة ترتيب البيت السياسي. وإذا لم تستغلها الأحزاب والمواطنون معا، فسنسقط مجددا في إعادة إنتاج نفس الأزمة التي ننتقدها منذ سنوات. الفرق الوحيد هذه المرة هو أن الدولة قالت كلمتها: الشفافية لم تعد اختيارا، بل أصبحت شرطا للبقاء في المشهد السياسي.