في خطابه السامي بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش، جدد الملك محمد السادس التزامه الراسخ ببناء مغرب متماسك ومتضامن، يقوم على العدالة الاجتماعية والمجالية، ويضع المواطن في صلب السياسات العمومية. وأكد جلالته على ضرورة تجاوز منطق “المغرب بسرعتين”، من خلال توسيع دائرة الاستفادة من التنمية لتشمل جميع الفئات والجهات، مع التركيز على محاربة الهشاشة والإقصاء الاجتماعي. هذا التوجه يعكس رؤية ملكية واضحة تهدف إلى تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.
فمنذ اعتلائه العرش سنة 1999، دأب الملك محمد السادس على توجيه الخطابات الملكية لتقييم حصيلة العمل الحكومي وتحديد الأولويات الاستراتيجية للمرحلة المقبلة. وقد شكلت هذه الخطب خارطة طريق للإصلاحات الكبرى التي شهدها المغرب، لاسيما في مجالات البنيات التحتية، الحماية الاجتماعية، التعليم، والصحة. ويؤكد الخطاب الأخير مرة أخرى على أن التنمية الحقيقية لا تكتمل إلا بإشراك المواطن المغربي وتمكينه من شروط العيش الكريم والمساهمة الفاعلة في بناء مستقبل بلاده.
وبالرغم التحديات المناخية، لا سيما توالي سنوات الجفاف، حافظ الاقتصاد الوطني على نسبة نمو مهمة، في مشهد يُبرز صلابة البنية الاقتصادية المغربية وحسن تدبير المرحلة. هذا الأداء لم يكن وليد الصدفة، بل نتاج رؤية استراتيجية، يتصدرها الاستثمار في البنيات التحتية بمواصفات عالمية، والمضي قدمًا في مشاريع ضخمة في مجالي الأمن المائي والطاقي، ضمن مقاربة استباقية لتأمين مستقبل الأجيال المقبلة.
وأكد جلالة الملك أن هذه المشاريع الكبرى لن تؤتي ثمارها الحقيقية ما لم تنعكس إيجابيًا على واقع المواطنين، خاصة في العالم القروي، حيث ما يزال عدد من المغاربة يعاني من الهشاشة الاجتماعية. ومن هنا، شدد عاهل البلاد على أن التنمية يجب أن تكون شاملة، عادلة، ومندمجة، تأخذ بعين الاعتبار نتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024، وتُوجّه نحو تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية.
وفي هذا السياق، وجّه الملك محمد السادس الحكومة إلى إعداد جيل جديد من البرامج التنموية ذات الأثر المباشر على المواطنين، في مقدمتها دعم التشغيل، وتعزيز التربية، وتحسين الصحة العمومية. إنها دعوة صريحة إلى جعل المواطن في صلب السياسات العمومية، لا رقماً في المعادلات التقنية.
على المستوى السياسي، شدد جلالة الملك محمد السادس في خطابه السامي على أهمية الإعداد الجيد للانتخابات التشريعية المقبلة، مؤكداً أنها ستُجرى في وقتها المحدد، في احترام تام للمسار الديمقراطي الذي اختاره المغرب بثبات. ويعكس هذا الموقف التزام المؤسسة الملكية بضمان الانتظام الانتخابي وتعزيز دور المؤسسات التمثيلية، باعتبارها إحدى ركائز الحكم الديمقراطي ودعامة أساسية في البناء المؤسساتي للدولة.
هذا التوجه ينسجم تماماً مع ما عبّر عنه الملك في مناسبات سابقة، حين وصف نفسه بـ”الملك الديمقراطي”، مؤكداً أنه أول من يحترم الدستور ويحرص على تطبيق مضامينه. فمنذ اعتماد دستور 2011، حرص جلالته على ترسيخ دولة المؤسسات، وفصل السلط، وتعزيز دور البرلمان والأحزاب السياسية، بما يعكس إرادة ملكية واضحة في تكريس الممارسة الديمقراطية كخيار لا رجعة فيه.
أما خارج الحدود، فقد أعاد جلالته التأكيد على ثوابت السياسة الخارجية المغربية، خصوصًا التمسك بمبادرة الحكم الذاتي التي تحصد مزيدًا من الدعم الدولي، معبّراً عن اعتزاز المغرب بمواقف إنجلترا والبرتغال الشجاعة في هذا الصدد. كما جدّد جلالته التقدير للشعب الجزائري الشقيق، مذكّرًا بأواصر الدين والجوار، ومجددًا مد يد المغرب الصادقة من أجل بناء مغرب عربي موحد.
إنه بالفعل خطاب الوضوح والمسؤولية، يعبّر عن رؤية ملكية ناضجة تستحضر التحديات وتواجهها بإرادة الإصلاح والعمل الميداني. فقد وضع الملك محمد السادس الوطن والمواطن في صلب التحولات الكبرى، محددًا بوضوح أن لا مكان لمغرب متردد أو غير منصف، بل لمغرب واثق من إمكاناته، متضامن في مقارباته، وشامل في تنميته.
هذا الخطاب يوجّه البوصلة نحو مغرب حديث، منفتح على الشراكات المتعددة، ومتشبّث بسيادته واستقلال قراره، طامح إلى مستقبل لا تحده حدود، ولا تعرقله الفوارق. إنه نداء لمواصلة البناء والتجديد، في إطار من الوحدة الوطنية والالتزام الجماعي، من أجل تحقيق تطلعات المواطن المغربي أينما كان.