المنصات الجهوية للطوارئ: بنية احتياطية برؤية استراتيجية متعددة الأبعاد

في مشهد يعكس تحولًا نوعيًا في إدارة الأزمات بالمغرب، أشرف الملك محمد السادس على انطلاق مشروع إنشاء منصات جهوية للمخزون والاحتياطات الأولية، بداية من جهة الرباط-سلا-القنيطرة. هذا القرار لا يمكن اختزاله في مجرد مشروع لوجستي، بل يحمل في طياته رؤية استراتيجية شاملة تعيد رسم ملامح الدولة المغربية في سياق عالمي يتسم بتصاعد المخاطر، وتزايد الحاجة إلى صلابة البنية التحتية للطوارئ.

أولًا: بعد السيادة الوطنية وتعزيز الاستقلالية

من خلال إحداث 12 منصة موزعة على مختلف جهات المملكة، يخطو المغرب نحو تعزيز استقلاليته في مواجهة الكوارث، بعيدًا عن منطق الاستنجاد الخارجي. المخزونات الاستراتيجية التي ستغطي الاحتياجات الفورية في مجالات الإيواء، الغذاء، التطبيب والطاقة، تجعل المملكة أكثر قدرة على الاعتماد على ذاتها في الأوقات الحرجة، وتقلل من هشاشتها أمام التقلبات الجيوسياسية والمناخية.

ثانيًا: تأمين اجتماعي استباقي

المنصات تشكل ضمانًا عمليًا للأمن الإنساني في بعده الاجتماعي، من خلال تمكين الدولة من الاستجابة الفورية لمتطلبات المواطنين المتضررين. هذا التمكين لا يقتصر على الكارثة كحدث، بل يشمل المراحل التالية لها، عبر رعاية صحية متنقلة ومرافق لإعادة الإيواء وتقديم الدعم النفسي واللوجستي، مما يعزز ثقة المواطن في دولته ويعيد صياغة علاقة جديدة بين الدولة والمجتمع قوامها الحماية والرعاية.

ثالثًا: تموقع إقليمي جديد

من خلال هذه البنية غير المسبوقة في المنطقة، يرسّخ المغرب موقعه كدولة رائدة في تدبير الكوارث، ويؤسس لتموقع جديد كمنصة إقليمية للمساعدة الإنسانية والإغاثة في إفريقيا وجنوب المتوسط. فالقدرة على تعبئة الموارد بسرعة وفعالية يمنح المغرب أداة دبلوماسية ناعمة تُوظَّف في تعزيز شراكاته الدولية والتعاون جنوب-جنوب.

رابعًا: بعد صناعي واقتصادي تحفيزي

يشير المشروع إلى نية واضحة في تطوير منظومة وطنية لإنتاج المعدات والتجهيزات المتعلقة بالطوارئ، مما سيفتح آفاقًا صناعية جديدة ويحفز الاستثمار في قطاعات نوعية (كالخيام التقنية، المستشفيات الميدانية، أنظمة تنقية المياه…). هذا التوجه لا يخدم فقط البعد الوقائي، بل يندرج ضمن استراتيجيات خلق القيمة المضافة ومناصب الشغل المرتبطة بالاقتصاد المقاوم للأزمات.

خامسًا: ترسيخ مقاربة الحكامة الترابية

التموقع الجهوي للمنصات يترجم مبدأ القرب في التدخل، ويعكس وعيًا بمخاطر التمركز في الأزمات. فلكل جهة خصوصيتها الديمغرافية والبيئية، ولذلك فإن توزيع المستودعات والمعدات على أساس دراسة مخاطرية دقيقة يشكل تمرينًا متقدمًا في التدبير الترابي، ويحيل على تطور في أدوات الدولة في التخطيط الوقائي.

سادسًا: تجسيد للرؤية الملكية في بناء دولة الصمود

أكثر من مجرد استجابة لحوادث عرضية، تمثل هذه المنصات تجليًا ملموسًا للرؤية الملكية التي تضع “مغرب الأمان والاستباقية” في قلب النموذج التنموي الجديد. إنها ترجمة عملية لمفهوم الدولة التي لا تنتظر وقوع الأزمة لتتحرك، بل تبني آلياتها على توقعها والاستعداد لها، ما يعزز الثقة الاستراتيجية في المؤسسة الملكية كضامنة للاستقرار والأمان المجتمعي.

في المحصلة، لا يمكن النظر إلى هذه المنصات الجهوية كمجرد مستودعات أو مراكز لوجستية، بل يجب قراءتها كركائز صلبة في هندسة مغرب المستقبل؛ مغرب قادر على تحويل الكوارث إلى فرص لتقوية المنظومة الوطنية، ومواجهة الطوارئ بمنطق السيادة والاستباق لا بمنطق الارتجال والتبعية. إنها تجسيد لانتقال المغرب من مرحلة رد الفعل إلى منطق التخطيط الاستراتيجي طويل المدى، بقيادة ملك يجيد توجيه الدولة في لحظات التحول الكبرى، ويؤسس لبنية صلبة تُسند التنمية، وتحمي الإنسان، وتمنح للمؤسسات عمقًا وقوة في زمن الأزمات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

مبعوث بريطاني: ملتزمون بتعميق الشراكة مع المغرب

المنشور التالي

اعتقالات جماعية لطلبة بأمريكا بعد احتجاجات داعمة لفلسطين

المقالات ذات الصلة