بقلم الدكتور أحمد أزوغ: أستاذ باحث، مدير ماستر للذكاء الاصطناعي بباريس
المغرب بعيون الغير: كيف يرانا العالم؟
في 2004 زار Antoine de Maximy المغرب في إطار برنامجه المشوق J’irai dormir Chez Vous (سوف أذهب للنوم عندكم) وهو برنامج يهتم بزيارة بلدان العالم، وقضاء ليلة في منازل السكان، وقد زار فيه مقدم البرنامج أكثر من 70 دولة. وفي حديثه عن زيارته للمغرب، قال Antoine “من بين جميع البلدان التي زرته يبقى المغرب أكثر بلد مضياف، فحينما كان همي في بلدان أخرى إيجاد شخص يستقبلني في بيته، كان اهتمامي في المغرب اختيار الأفضل للبرنامج بسبب استعداد كثير من المغاربة في بيوتهم بكل حفاوة”. هذه الشهادة تختصر جانبا مهما من الصورة التي يحملها الزائرون عن المغرب: بلد غني بإنسانيته، متنوع بثقافته، كريم بطبعه.
في هذا المقال، نحاول أن نقدّم تقييما مزدوجا لصورة المغرب في عين الآخر، يجمع بين التحليل النوعي الذاتي عبر شهادات وتقارير، وبين التقييم الكمي الموضوعي عبر مؤشرات دولية، في محاولة لفهم ملامح القوة والتحديات التي ترسم مكانة المغرب في الوعي العالمي. نستعمل في ذلك شهادات سياح أجانب، وتقارير معاهد دولية علمية ثم مؤشرات موضوعية تعيننا على فهم موضوعي لوضعية المغرب بعيون الغير.
هدفنا الإجابة عن ما هي أبرز الصور الإيجابية التي يتركها المغرب في نفوس الزائرين والمراقبين الدوليين؟ وما هي أيضا الإشكاليات والانطباعات السلبية التي تترسخ أحيانا؟ ثم كيف تساعدنا المؤشرات العالمية على بناء قراءة نقدية متأنية، استعدادًا لصياغة مشروع إصلاح أخلاقي وثقافي متجدد.
الصورة الإيجابية في عين الآخر
من خلال شهادات الزوار على مواقع مثل TripAdvisor وLonelyPlanet، تتكرّر بعض الصور الجميلة عن المغرب، والتي تعكس صورة مشرقة لمجتمع يزاوج بين عمق التاريخ وحيوية التغيير، ويُبقي على إنسانيته رغم التحديات.
ومن أبرز ما يثير انتباه الأجنبي في المغرب دفء العلاقات الإنسانية والكرم، فقد علّقت السائحة الفرنسية Claire D. قائلة: “لم أمر بقرية واحدة إلا ودعاني أهلها للشاي، حتى لو لم يكن يعرفونني. الكرم هنا ليس استثناءً بل قاعدة.” المغرب كذلك متميز بتسامحه الديني والثقافي، فقد كتب السائح الكندي Michael P. على TripAdvisorعن زيارته لمراكش: “رؤية المساجد والكنائس والمعابد اليهودية متجاورة بأمان، جعلني أدرك كم كان هذا البلد تاريخيًا أرض تسامح”. روح النكتة والتعايش كذلك من أجمل ما يجذب انتباه الأجنبي، فقد كتب الرحّالة الأسترالي Luke J. في تقريره على LonelyPlanet: “المغاربة يتعاملون مع صعوبات الحياة بروح مرحة وساخرة، تجعل من التواصل معهم متعة حقيقية”.
يعزز هاته الشهادات الإيجابية تقارير مؤسسات ومعاهد دولية منها تقرير البنك الدولي 2024 الذي أكد على وجود إرادة إصلاحية وانفتاح على التغيير بالمغرب ونوه بدينامية التحديث التشريعي والمؤسساتي اللافتة في المغرب، رغم الإكراهات الهيكلية. ومن جهته أبرز تقرير معهد السياسة الخارجية الأمريكي FPI في 2024 أهمية الدبلوماسية الناعمة والحضور الثقافي الكبير للمغرب حيث أكد أن المغرب يُعتبر “واحة استقرار في شمال أفريقيا، يحظى باحترام دولي متزايد لدوره في الوساطة والحوار”.
الصورة السلبية المنتشرة
غير أن الصورة ليست وردية تمامًا. فكما تظهر في تقارير الزائرين والملاحظات الدولية، فالصور السلبية متداولة بين السياح مع الأسف الشديد. فقد كتب السائح الألماني Hans R على TripAdvisor حول الفساد المستشري وضعف المحاسبة: “تفاوضنا مع سائق سيارة أجرة نصف ساعة للوصول إلى سعر معقول… الكل يريد أن يأخذ منك أكثر من اللازم”. ومن جهته اشتكى المسافر الإيطالي Giovanni L من البيروقراطية في المؤسسات: “أخذنا ساعتين لإنهاء معاملة بسيطة في الدار البيضاء، وكأن الفرد يُفترض أن يثبت أهليته قبل أن يُعامل باحترام”. من جهته تحدث Danny G على موقع TripAdvisor عن تجربته السيئة مع النظافة وسوء الترتيب: “الطعام سيء للغاية. كان علينا الانتظار في طوابير طويلة للحصول على جزء صغير من الطعام”، وأضاف “المكان مغطى بفضلات الطيور والنوارس في كل مكان”. واختتم مراجعته بقوله: “هذا الفندق دمر زيارتي للمغرب”.
تعزز بعض التقارير الدولية الجوانب السلبية عن المغرب، حيث أبرز تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية 2024 التفاوت الاجتماعي وغياب عدالة الفرص، مسجلا أن الفجوة بين الفئات الاجتماعية في المغرب ما تزال جد مرتفعة. ينضاف إلى ذلك الصورة النمطية عن الهجرة والتسول والتمييز، حيث أكد تقرير لمنظمة العفو الدولية 2024 استمرار تحديات تتعلق بحقوق المرأة والمهاجرين جنوب الصحراء.
المؤشرات الموضوعية: بين المكاسب الظاهرة والتأخر البنيوي
لإكمال الصورة الواقعية، من المفيد قراءة أداء المغرب عبر مؤشرات موضوعية دولية رئيسية.
أولًا: مؤشرات البنية التحتية والاقتصاد والدبلوماسية
في مقابل التحديات الاجتماعية والسياسية، يبرز تقدم المغرب في البنية التحتية كواحد من أوراقه الرابحة في تعزيز صورته الخارجية.
فبحسب مؤشر لوجستيات الأداء الصادر عن البنك الدولي سنة 2024، احتل المغرب المرتبة 58 عالميًا من أصل 139 دولة، متقدِّمًا على أغلب دول إفريقيا والشرق الأوسط، ما يعكس تحسنًا ملموسًا في كفاءة الموانئ، وجودة الطرق، والخدمات الجمركية. ويعزّز هذا التقدم ما كشفه مؤشر تنمية البنية التحتية في إفريقيا (AIDI) التابع للبنك الإفريقي للتنمية، حيث صُنّف المغرب ضمن الخمسة الأوائل في القارة في مجالات النقل والطاقة وتكنولوجيا المعلومات.
وفي مؤشر القوة الناعمة العالمي (Global Soft Power Index) الصادر عن مؤسسة Brand Finance سنة 2024، حقق المغرب المرتبة 55 عالميًا من بين 121 دولة، متقدماً على معظم الدول الإفريقية والعربية. ويعزى هذا الأداء إلى تنامي الحضور الثقافي للمغرب، ودبلوماسيته الناعمة، ومكانته في الوساطة الإقليمية، وخاصة في ملفات الهجرة، والتعاون جنوب-جنوب، والحوار الديني.
كما يبرز مؤشر “Worldwide Governance Indicators” الصادر عن البنك الدولي الاستقرار السياسي في المغرب، حيث حافظ سنة 2024 على ترتيب فوق المتوسط الإقليمي من حيث الاستقرار السياسي وغياب العنف، مما يعزز صورته كدولة آمنة نسبيًا في منطقة مضطربة.
هذه النتائج لا تعكس فقط الاستثمارات الضخمة في مشاريع كبرى كطنجة المتوسط، والطرق السريعة، وخط القطار الفائق السرعة، بل تشير إلى رؤية تنموية متكاملة سياسية واقتصادية ترى في البنية التحتية والدبلوماسية والاقتصاد مدخلاً لتقوية الدولة، وتحفيز الاقتصاد، وتعزيز جاذبية البلد دوليًا.
ثانيًا: مؤشرات النزاهة والأمن والديمقراطية والحريات
في مؤشر مدركات الفساد (CPI) لعام 2024، حصل المغرب على 37 نقطة من أصل 100، متراجعًا إلى المرتبة 99 عالميًا من بين 180 دولة، مما يعكس استمرار التحديات في مجال الشفافية والمحاسبة.
أما معدل الجريمة، فقد بلغ 46.5 وفقًا لمؤشر Numbeo لعام 2024، وهو معدل متوسط عالميًا، أعلى من المعدلات الأوروبية، لكنه أقل من المعدل المسجل في دول أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة الأكثر خطورة.
في مؤشر سيادة القانون الصادر عن مشروع العدالة العالمي (WJP) لعام 2024، احتل المغرب المرتبة 92 من أصل 142 دولة، مع تسجيل درجة 0.48، مما يشير إلى ضعف في استقلالية القضاء وثقة المواطنين في النظام القضائي.
في مؤشر الديمقراطية الصادر عن “ذي إيكونوميست” لعام 2024، حصل المغرب على تقييم قدره 4.97 من 10، مصنفًا بذلك ضمن الأنظمة “الهجينة” التي تجمع بين بعض سمات الديمقراطية وممارسات سلطوية، واحتل المرتبة 91 عالميًا من بين 167 دولة.
أما في مؤشر حرية الصحافة الصادر عن “مراسلون بلا حدود” لعام 2024، جاء المغرب في المرتبة 129 عالميًا من أصل 180 دولة، مما يدل على استمرار التحديات المتعلقة بحرية التعبير والوصول المستقل إلى المعلومات.
ثالثا: مؤشرات التنمية البشرية والرفاه الاقتصادي
في مؤشر التنمية البشرية (HDI) لعام 2024، احتل المغرب المرتبة 120 عالميًا من بين 193 دولة، مع تسجيل قيمة 0.698، مما يضعه ضمن فئة التنمية البشرية المتوسطة.
أما في مؤشر الرخاء العالمي الصادر عن مؤسسة ليغاتوم لعام 2023، فاحتل المغرب المرتبة 96 عالميًا من أصل 167 دولة، مما يدل على هشاشة النسيج المؤسساتي والاجتماعي بالرغم من الاستقرار النسبي.
في مؤشر الفقر متعدد الأبعاد (MPI) لعام 2024، سجل المغرب قيمة 0.027، مما يدل على تقدم معتبر في التغطية الصحية والتعليمية والبنى التحتية مقارنة بالتسعينات، مع استمرار فوارق صارخة بين المدن والقرى.
أما عن مؤشر العدالة الاجتماعية (Gini)، فالمغرب يسجل حوالي 39.5، مما يضعه في خانة الدول ذات التفاوت الاجتماعي المتوسط، لكنه ما يزال بحاجة إلى إصلاحات أوسع لضمان توزيع عادل للثروات والفرص.
وأخيرا في مؤشر السعادة العالمي لعام 2024، جاء المغرب في المرتبة 107 عالميًا من أصل 147 دولة، مما يعكس تراجعًا في الإحساس العام بالرضا، رغم ما يتمتع به المجتمع المغربي من دفء في العلاقات الإنسانية.
هذه الأرقام، رغم إشارات التحسن النسبي في بعض المجالات، تكشف بوضوح أن المغرب لا يزال يعيش مرحلة انتقالية نحو نضج مؤسسي واجتماعي متكامل، تتطلب مجهودًا منهجيًا وطويل النفس لتحقيق قفزة نوعية.
قراءة نقدية
بعد استعراض الانطباعات المروية والمؤشرات الرقمية، يبدو أن صورة المغرب في عين الآخر تتأرجح بين دفء شعبي وإنساني صادق، وبين أداء مؤسسي ما يزال يراوح مكانه في مراتب متوسطة أو متأخرة. فالمؤشرات المرتبطة بالحريات العامة والحكامة الرشيدة، كحرية الصحافة، ومدركات الفساد، وسيادة القانون، ترسم ظلالًا قاتمة على المشهد، وتدلّ على أن الرأسمال الاجتماعي العفوي الذي يلمسه الزائرون، لا يواكبه بعدُ تفعيل مؤسساتي متين يؤمن العدالة والكرامة للجميع.
في المقابل، تُظهر مؤشرات مثل الفقر المتعدد الأبعاد وتحسّن البنية التحتية أن المغرب يسير بخطى محسوبة نحو تحسين ظروف العيش، وإن كانت بطيئة ومتفاوتة بحسب المناطق والفئات الاجتماعية. إن تناقض هذه المؤشرات يعبّر عن مفارقة عميقة: لدينا شعب كريم بطبعه، لكن ما يزال يعاني من مؤسسات لم ترق بعد إلى مستوى ثقته. لدينا روح مرحة تتغلب على المِحن، لكن تنقصها بيئة سياسية واقتصادية تضمن لها الأمان والإنصاف.
إن هذه الهوة بين الرأسمال الاجتماعي الشعبي والتأخر المؤسسي القائم، لا يمكن سدها بخطاب رسمي ولا بحملات ترويجية، بل بمشروع وطني متكامل لإصلاح منظومة القيم، تتقاطع فيه التربية، والعدالة، والإعلام، والسياسة، ويستند إلى فهم دقيق لهويتنا ولصورة الآخر عنا. فالمغرب، كما يراه كثير من الأجانب، يحمل وعودًا أخلاقية وروحية كبرى، لكن هذه الوعود ستظل مجرد نوايا ما لم يُترجمها واقع يُقنع المواطن قبل الزائر.
ومن هنا، ننتقل إلى سؤال المقال المقبل: أي مغرب نريد؟ وهل نملك الشجاعة لننتقل من حسن الانطباع عند السياح إلى تصفية لمنابع الفساد، ومن التراث الحضاري الغني إلى السلوك الأخلاقي المتميز؟