المغرب: من نهضة عمران إلى نهضة إنسان (الحلقة 4)

بقلم الدكتور أحمد أزوغ: أستاذ باحث، مدير ماستر للذكاء الاصطناعي بباريس

نماذج التخلق عبر العالم: كيف استطاعت بعض الدول نشر السلوك الحضاري؟

حكى لي أحد الأصدقاء أنه رافق مهاجرا غير شرعي بفرنسا إلى أحد المستشفيات لإجراء بعض الفحوصات. فما كان من الأطباء هناك إلا أن استقبلوا ذاك المهاجر بكل حفاوة، وأجروا له الكشوفات والتحاليل اللازمة، بل أخضعوه لعملية جراحية باهظة التكاليف مجانا دون أن يُسأل عن أوراقه أو جنسيته. فما كان منه بعد خروجه من المستشفى، إلا أن رفع أكف الضراعة يدعو لكل من في المستشفى قائلًا: “اللهم احفظهم فهؤلاء هم المسلمون حقًا”.

كذلك رافقتُ بعض الباحثين القادمين من بلدنا في مهام علمية بأوروبا، وكم كانت دهشة أحدهم كبيرة عندما شكر أحد الموظفين على الاستقبال الحار والتفاني في العناية التي خصه بها، حيث أجابه ذلك الموظف الأوروبي قائلا “لا تشكرني سيدي فأنا لا أقوم إلا بواجبي”.

كثيرًا ما تستفز مثل هذه المواقف وجدان المغربي والمسلم، حين يُفاجأ بأخلاق عالية عند من لا يُعرَفون بتدينهم، فيقارن بينها وبين ما يراه في مجتمعه من سلوكيات تناقض القيم التي يُفترض أن تكون دينية. وتنتصب حينها مفارقة محيرة: لماذا نجد أحيانًا أخلاق نعتبرها إسلامية عند غير المسلمين، ولا نجدها بالقدر نفسه عند المسلمين؟ 

هذا السؤال يحيلنا إلى مهمة هاته السلسلة الأشمل، فحيث أننا نسعى إلى بعث نهضة أخلاقية بالمغرب موازاة مع نهضته العمرانية، فإن دراسة النماذج الأخلاقية الدولية التي نجحت ولو نسبيا في تطوير سلوك جماعي منضبط، تمثل خطوة ضرورية لاستلهام ما يلائمنا دون استنساخ ما لا يناسبنا.

إن القيم الكبرى، وإن كانت موحدة كالعدل والصدق والنزاهة، فإن مسالك الوصول إليها تختلف باختلاف البنية الثقافية، والسياسية، والدينية، والاجتماعية. في هذا المقال نأخذ بالدراسة الدول التي استطاعت تحقيق أرقام إيجابية (أكثر من 50%) في مؤشرين أساسيين هما: مؤشر مدركات الفساد (Corruption Perceptions Index) ومؤشر الجريمة (Crime Index)، باعتبارهما معيارين ملموسين لتقدير مدى نضج السلوك المدني داخل أي مجتمع. كل البلدان مختلفة في طرق تفعيلها للقيم الأخلاقية، لكننا اخترنا في مقالنا هذا تجميع نماذج دول متقاربة فيما بينها حتى نفهم المقاربات الكبرى في تخليق المجتمعات.  

أول هذه النماذج يمكن أن نسميه نموذج النزاهة المؤسسية، وهو يشمل بلدانا أهمها أوروبا الإسكندنافية وكندا ونيوزيلندا وسويسرا. حيث تُفعَّل الأخلاق من خلال تعليم نقدي، وحس مواطنة فاعلة، ومؤسسات شفافة. مما يجعل المنظومة الأخلاقية مدعومة بتكامل بين الاقتناع الفكري (البرهان) والوازع الذاتي (الوجدان) والضابط المؤسسي (السلطان). هنا يُعتبر القانون امتدادًا للعقل الجمعي الواعي، وتُربّى الناشئة على التساؤل والتفكير لا فقط على الامتثال. من أبرز مظاهر هذا النموذج إلزامية الشفافية التامة في العقود العمومية، وتمكين المواطن من الولوج الحر للمعلومة، وربط الثقة بالمحاسبة. يتجلى في هاته الدول الجمع بين ديمقراطية متقدمة، ومؤشر فساد جد منخفض، ومعدل جريمة محدود، مما يجعله من أهم نماذج التخليق في العالم. ومع ذلك، فقد ينتقد هذا النموذج بكونه يجعل الأخلاق شديدة الارتباط بالمؤسسات، مما يدفع نحو فردانية كبيرة في المجتمع، حيث ينتقل خلق التضامن مثلا من خلق مجتمعي دافئ إلى واجب مؤسسي جاف. ويؤاخذ كذلك على هذا النموذج أنه لا يُفضي إلى نتائج محمودة إلا إذا كان للمجتمع بنية مؤسسية متماسكة وثقافة ديمقراطية راسخة، وإلا بقيت القوانين حبرا على ورق.

ثاني هذه النماذج يمكن أن نسميه نموذج الضمير الجماعي، ويشمل بلدانا مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان. في هاته البلدان، تقوم الأخلاق على ثقافة الالتزام الجماعي، والإتقان، والشرف. ويُبرز العار كقيمة مركزية في هذا النموذج، لا بمعناه السلبي المرتبط بالإذلال، بل كإحساس داخلي (الوجدان) بالخجل من مخالفة توقعات الجماعة (الجيران). فالإنسان هناك لا يخاف العقاب بقدر ما يخاف فقدان احترام الآخرين والخروج عن الجماعة، وهو ما يجعل الضمير الجماعي آلية ضبط فعالة. في هذا السياق، يُستعمل العار كرقيب أخلاقي ذاتي يدفع الفرد للامتثال الذاتي دون إكراه خارجي. تبدأ التربية هنا على احترام الآخرين من البيت والمدرسة، وتُترجم في الفضاء العمومي إلى التزام أخلاقي صارم، حتى في غياب الرقابة أو الدين. ويظهر ذلك في مشاهد مثل تنظيف الطلبة لأقسامهم، والتزام العمال بالعمل حتى خلال الكوارث، واعتذار المسؤولين العلني عن الأخطاء. وينتج عن هذا النموذج سلوك عام منضبط ومؤشرات أداء أخلاقي مشرفة. إذ تسجّل هاته البلدان معدلات فساد متوسطة إلى منخفضة ومعدلات جرائم منخفضة، ما يعكس فعالية قيم الالتزام والانضباط الداخلي في دعم الأخلاق العامة. لكن هذا النموذج لا يخلو كذلك من سلبيات، إذ قد تتحول الرقابة الجماعية إلى ضغط خانق يحدّ من التعبير الفردي والاختلاف، ولا يسمح بالتساهل مع الأقل كفاءة وامتثالا، وهو ما نلاحظه من خلال ارتفاع معدلات الانتحار، وثقافة العمل المضني، والعزلة الفردية المتفشية، والعزوف عن الزواج والانجاب مما يهدد استمرارية هاته الدول. ففي هاته الدول إما أن تكون ملتزما بالضمير الجماعي وتواكب المثالية المنتظرة في الأداء وإما أن تبقى على هامش المجتمع.

ثالث هذه النماذج هو نموذج الرقابة المؤسسية ويشمل بلدانا كسنغافورة وماليزيا وهونغ كونغ وبعض دول الخليج كقطر والإمارات. ففي هاته الدول ترتفع أهمية الولاء للنظام، ويُربّى الأفراد على الطاعة والثقة في الدولة أكثر من الاعتماد على النقد الذاتي أو المشاركة السياسية. ويقوم ضبط السلوك أساسا على تفعيل السلطة الصارمة (السلطان) والهوية الدينية (الإيمان) والانضباط المدني (الرجحان)، دون أن يقتضي ذلك بالضرورة ديمقراطية سياسية واسعة ومؤسسات رقابة قوية. ويُظهر هذا النموذج أن النجاح القيمي قد يتم عبر الدولة، دون مبادرة ضرورية من المجتمع. ومن أبرز آلياته الغرامات والعقوبات الصارمة ضد السلوك غير الحضاري، ودروس الأخلاقيات في المناهج المدرسية، وتشجيع العمل التطوعي المنظم. تتميز هاته الدول بمؤشر فساد متوسط إلى منخفض، ومعدل جريمة منخفض، مما يُظهر أثر السياسات الزجرية المنظمة في ضبط السلوك العام. لقد استطاعت هاته الدول أن تحقق ثورة اقتصادية وانضباطا أخلاقيا في فترة قصيرة من خلال استغلال أمثل للثروة وتحكم قوي للدولة في مختلف نواحي المجتمع. غير أن هذا النموذج قد ينتج مواطنًا منضبطًا لا بالاقتناع، بل بالخوف من الردع والرغبة في استدامة الانتفاع الخاص، وقد يُقيّد الحريات السياسية والحقوقية باسم الحفاظ على النظام العام، ما يجعل فعاليته رهينة باستمرارية إرادة السلطة الصادقة في محاربة الفساد، وصرامتها في معاقبة كل تجاوز، ودوام الرخاء المادي بين أفراد الوطن.

رابع هذه النماذج نسميه نموذج المواطنة القانونية ويشمل أغلب بلدان أوروبا الغربية كفرنسا وألمانيا وإسبانيا، حيث يعتمد على تفعيل القناعة الحقوقية (البرهان)، مدعومًا بالمؤسسات القانونية (السلطان)، مما يجعل الالتزام الأخلاقي نابعًا من تبني القانون فلسفيا واحترامه، دون ضرورة استبطانه وتمثله وجدانيًا. يستند هذا النموذج إلى بنية قانونية صلبة، مع أداء أخلاقي متوسط إلى جيد، فمؤشرات الفساد منخفضة، ومعدلات جريمة متوسطة. في هذا النموذج يلعب القانون دورا مركزيا في إرساء التوازن بين الحرية والمسؤولية، حيث تُفعل الأخلاق عبر ثقافة قانونية متقدمة، تربط بين الحقوق والواجبات، وتُعلي من كرامة الفرد داخل دولة المؤسسات. تبرز القيم المدنية كالإتقان، المسؤولية، والحرية، كقيم مركزية. ويشكّل القانون إطارًا جامعًا يفرض النظام ويضمن التعددية والحريات الفردية. ويعتمد على أدوات مثل القضاء المستقل، والتربية الفلسفية، والرقابة المدنية على الأداء العام. لكن هذا النموذج، رغم نضجه القانوني، قد تضعف فيه الدوافع الوجدانية للأخلاق، حين تتحول القيم إلى قوانين جافة خاصة مع غياب دروس الأخلاق في المدارس وتضاؤل دور الدين في المجتمع. فيكتفي المواطن بالامتثال للقانون المتغير حسب أهواء المشرع دون بناء حس داخلي عميق. بل الأدهى نمو الفردانية و تراجع الثقة الاجتماعية، وتنامي تفكك المجتمع، وتغليب المصالح الجهوية والفئوية على المصالح العامة. إحصائيات عديدة صادمة توضح قلة من هم مستعدون للقتال دفاعا عن أوطانهم في أوروبا الغربية، حيث تقارب تلك النسبة الثلث بينما تناهز النصف في سائر أنحاء العالم. 

خامس هذه النماذج نسميه نموذج المصلحة الفردية ويشمل أساسا الولايات المتحدة الأمريكية وبصفة أقل بريطانيا والبرازيل. حيث يقوم هذا النموذج على المصلحة الفردية (الرجحان)، مدعومًا بالردع القانوني (السلطان)، حيث يعتبر الفرد محور الأخلاق في هذا النموذج. فتُربى الأجيال على الاعتماد على الذات، وأخلاقيات المهنة، والنجاح الشخصي، ما يجعل الأخلاق متأثرة بالمصلحة الشخصية أكثر من الالتزام الجماعي أو القيمي. ومن أبرز ملامحه كذلك تشجيع المبادرات الفردية، والثقة في السوق، وربط الأخلاق بالأداء المهني لا بالانتماء المجتمعي. يُظهر هذا النموذج تباينًا واضحًا في الأداء، فرغم معدلات جيدة في مكافحة الفساد، فإن مؤشر الجريمة مرتفع نسبيًا، ما يبرز أن التركيز على الفردانية دون سند مجتمعي قد يضعف الالتزام الأخلاقي العام. فغياب الضابط الجماعي، وضعف التضامن، وارتفاع معدلات الجريمة، يجعل هذا النموذج مرآة واضحة لتحديات الليبرالية الأخلاقية حين لا تكون مصحوبة بثقافة روحية أو اجتماعية عميقة. ثم إن الإفراط في تقديس النجاح الفردي قد يؤدي إلى تفكك الروابط الاجتماعية، وتنامي التفاوت، وغياب حس التضامن، مما يجعل النظام الأخلاقي هشًّا أمام الأزمات وعاجزا في ضمان السلم الاجتماعي وهو ما يلاحظ من خلال توالي جرائم القتل الجماعي في بعض تلك الدول.

سادس هذه النماذج وآخرها اخترنا تسميته نموذج التعافي الجماعي واخترنا أن ندرج فيه روندا والأوروغواي كبلدين سلكا طريق النهضة الأخلاقية عقب أزمات كبرى. حيث لا يكون التخلق نتيجة مؤسسات قوية أو تقاليد راسخة بل عبر إرادة قوية لإحياء المجتمع وبناء الثقة في الدولة. تفعّل الأخلاق في هذا النموذج من خلال ذاكرة جماعية جريحة توظف بطريقة بناءة (الجيران)، وتسهم في بناء ضمير حي (الوجدان) و تراقب تنزيله واستدامته آليات الدولة (السلطان). لقد استُثمرت الأزمات (مجازر رواندا 1994 وديكتاتورية الأوروغواي 1973-1985) في بناء وعي جماعي قائم على المصالحة والمسؤولية المشتركة. في هذا النموذج، لا تكون الأخلاق رفاهية فكرية، بل ضرورة للبقاء والتماسك. وتُفعّل من خلال الإعلام التوعوي، وإعادة دمج الفئات الهشة. وتُظهر تجربة رواندا، مثلًا، كيف يمكن تحويل ذاكرة المجازر إلى طاقة للمصالحة الوطنية عبر آليات شعبية للمساءلة، والعدالة الانتقالية. ويبرز يوم العمل المجتمعي الشهري أموغوندا Umuganda في رواندا، وبرنامج التكافؤ الرقمي والتربوي سيبال Ceibal في الأوروغواي كمثالين لهذا التضامن المجتمعي. يتميز هذا النموذج بمؤشرات سريعة التحسن رغم محدودية الموارد، حيث مؤشرات الفساد متوسطة، والجريمة منخفضة، ما يعكس دور المصالحة الجماعية والوعي الأخلاقي المتجدد في إعادة بناء المجتمع. لكن هذا النموذج يظل انتقاليا وظرفيًا من حيث استثماره لذاكرة حزينة قد يخفت تأثيرها بعد بضعة أجيال. كما أن اعتماده الكبير على الرمزية الجماعية قد لا يكون كافيًا لبناء مؤسسات عادلة على المدى الطويل. إذ لابد لذلك من ترسانة قانونية قوية واقتناع راسخ.

هاته المقارنة السريعة تبين لنا أنه لا يوجد نموذج مثالي يصلح للتطبيق كما هو. بل إن كل مجتمع يبتكر توازناته بين الضوابط الداخلية والخارجية، وبين القانون والثقافة، وبين الدولة والمجتمع. وما نحتاجه في المغرب ليس استنساخًا لنموذج جاهز، بل فهمًا عميقًا لدوافعنا، واستلهامًا ذكيًا لتجارب الآخرين، بما يُعيد بناء منظومة التخلق من الداخل، نحو نهضة إنسانية تُقنع وتُقوّم وتُلهم.

وبعد أن قمنا في هذا المقال بدراسة عدد من النماذج الدولية الناجحة في تفعيل أخلاق جماعية مستدامة، يصبح من المهم أن ننظر إلى الصورة التي يعكسها “الآخر” عنا: كيف يُنظر إلى المغرب أخلاقيًا من الخارج؟ وكيف تصوّره المؤشرات الدولية، والإعلام، والتجارب الفردية؟ أليس من المفيد أن نُصغي لتلك المرايا الخارجية، لفهم ما تحتاجه صورتنا الأخلاقية من تعديل؟ هذا ما سنحاول التوقف عنده في المقال القادم: “المغرب بعيون الغير”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

منتدى الأعمال المغربي-الفرنسي: آفاق جديدة للتعاون في اقتصاد الرياضة استعدادا لكأس العالم 2030

المنشور التالي

فودافون و اتصالات المغرب …توقيع شراكة نحو مستقبل رقمي واعد

المقالات ذات الصلة