المجتمع المغربي الذي نريد: من اللامبالاة الفردية إلى المسؤولية الجماعية (الحلقة 7)

الدكتور أحمد أزوغ: أستاذ باحث، مدير ماستر للذكاء الاصطناعي بباريس

في المقال السابق، حاولنا رسم ملامح المغرب المؤسسي الذي نريده: إدارة تُكرِم المواطن، قضاء يُنصِف، سياسة تُقنع، ودين يُوجِّه لا يُرهب. لكن المؤسسات وحدها لا تصنع التخلق، ما لم يجد المواطن في محيطه القريب نموذجًا يُحييه، وسلوكًا يُحفّزه، وضميرًا يُوقظه.

فالمجتمع ليس مجرد جمهور ينتظر الإصلاح، بل هو الفاعل الأول في إنتاج القيم أو تقويضها. في الشارع، والمدرسة، والبيت، والهاتف، كل لحظة تربية، وكل تصرف إما أن يُقوي الأخلاق أو يُرسخ الانحدار باسم العادة. نحتاج أن نُعيد ربط الأخلاق بالوظائف اليومية التي يمارسها الناس: كيف يُربّي الأب، كيف تُخاطب الأم أبناءها، كيف يُعامَل الطفل في الفصل، كيف يتصرف الشاب في الشارع، وكيف ينشر المؤثر منشوره الأول.

في هذا المقال، نحاول أن نرسم صورة أولى لـ”المجتمع الذي نريده”، عبر أربع مجالات نراها مفصلية في تكوين الضمير الأخلاقي الجماعي: الأسرة والطفولة، المدرسة والشباب، الشارع والفضاء العام، الإعلام والفضاء الرقمي. لعلنا، بهذه المحاولة، نُمهّد لبناء مشروع تخلّقي متكامل، ينطلق من واقع الناس، ويقترح مسارات عملية لما يمكن أن نكون عليه، إذا صدقنا النية، وأخلصنا العمل.

الأسرة والطفولة: التربية بالصحبة في زمن الانشغال

مع التقدّم المادي الذي عرفه المغرب، أصابت الأسر المغربية ما أصاب كثيرًا من بيوت العالم المعاصر: أثاثٌ أكثر، أجهزة ذكية، هواتف في كل يد، شاشات في كل غرفة… لكن الزمن العائلي المشترك يضيق، والحوار يقل، والمرافقة التربوية تضعف. في كثير من البيوت، صارت التلفزة تشرح، والهاتف يجاوب، والإنترنت يُربّي.بينما الأبوان، بكل نية طيبة، منشغلان بالسوق أو الشغل أو الهوايات، ولم يبق من التربية إلا كلمات عابرة، وأوامر مستعجلة، وعتاب دون حوار سابق.

في المغرب الذي نريده، ليست الأسرة فقط مأوى للطعام والنوم، بل هي الورشة الأساسية لبناء المواطن المغربي. نريد بيتًا يسمع فيه الطفل اسمه بصوت هادئ، ويُسأل فيه عن مشاعره لا فقط عن دروسه. نريد أبًا يُصاحب ابنه في الحياة، لا فقط إلى المدرسة، وأمًا تُنصت قبل أن توبّخ، وتربّي بالحنان قبل اللسان.

لكن القدوة والمصاحبة وحدها لا تكفي. فالطفل يحتاج أيضًا إلى حدود تربوية وضوابط سلوكية واضحة، تمنعه من الانفلات، وتُعلّمه أن الحياة حقوق وواجبات لا أهواء ومزاجات. فبين قسوة تدفعه إلى التمرّد سرًا، و”فشوش” يُفسده علنًا، لا بد للأسرة من منهج وسطي يجمع بين الحزم والرحمة، قواعد تُشرح، ضوابط تُناقش، وعقوبات تُمارَس بروح الإصلاح لا الإذلال.

فالطفل في عمقه لا يرفض النظام، بل يرفض التذبذب والاضطراب في تطبيقه. ما يزعجه ليس أن يُمنع من شيء، بل أن يُمنع مرة ويُسمح له به مرة أخرى دون تفسير، أو أن يُعاقَب على سلوك، بينما يُكافَأ عليه في مناسبة أخرى.

إن التربية الحقيقية ليست رعاية مادية فقط، بل مهمة نبيلة وشاقة، تتطلّب حضورًا مستمرًا، وصبرًا جميلًا، ووعيًا بأن أعظم استثمار هو الإنسان نفسه.

المدرسة والشباب: من جفاف التلقين إلى غرس الأمل

لماذا نُحبّ بعض المعلمين وننسى أسماء آخرين؟ ولماذا تبقى في ذاكرتنا لحظات من الطفولة لا علاقة لها بالدروس، بل بابتسامة معلم، أو موقف نبيل، أو كلمة تشجيع؟ لأن المدرسة، في عمقها، ليست بنك معلومات، بل مساحة لتكوين الإنسان، .

لقد تحولت المدرسة، في نظر كثير من الشباب، إلى مضمار سباق مرهق نحو الامتحانات دون معنى، حيث تتراكم الدروس، وتُقاس القيمة الشخصية بالنقطة لا بالمحتوى. لكن الحقيقة أن أغلبنا نسي تفاصيل دروس المرحلة الابتدائية، واحتفظ فقط بالشعور المرتبط بها: هل كنا نحسّ بالكرامة؟ بالثقة؟ بالتقدير؟ أم بالخوف، والضغط، والملل؟ هل كنا نجد مساحة للتعبير والإبداع والسؤال والنقاش؟ أم فضاء للحفظ والتلقين دون مساحة للفهم لإبداء الرأي؟

وفي غياب هذا الفضاء الدامج، يُصبح المراهق فريسةً لفراغ داخلي قد يتحول إلى عنف وانفجار عاطفي، نرى تجلياته في عنف الملاعب، وتكسير الحافلات، وتحرش الشوارع، أو مصيدة المخدرات. ذلك أن الطفل الذي لم يتعلّم كيف يُعبّر عن نفسه، سيتعلّم كيف يُنفّس غضبه على الآخرين، والمراهق الذي لم يجد في المدرسة امتدادًا للدفء والاعتراف الذي افتقده في البيت، سيبحث عن إثبات ذاته بأي وسيلة، ولو بالعنف.

لهذا نريد مدرسة تفتح نوافذ التعبير لا ضوابط الحفظ فقط. نريدها فضاءً للإنصات، للحوار، لغرس الأمل في المستقبل. نريدها مكانا يثق الشاب فيه أنه مساره المضمون للنجاح المهني. نريد مدرسة تُربّي قبل أن تُلقّن، وتبعث الأمل قبل أن تطالب بالعلامات.

نريد معلمًا لا يُعطي أجوبة جاهزة، بل يحفز الفضول ويُعلّم السؤال. إدارة تربوية لا تلاحق الغياب فقط، بل تواكب الوضع الاجتماعي للطفل. وشبابًا لا يُعامل ككتلة فوضى يجب السيطرة عليها، بل كطاقة تحتاج التعبير، والمرافقة، والمسؤولية.

في المغرب الذي نريده، لا نريد جيلا ينجح في الامتحان ويفشل في الحياة، بل جيلا يؤمن بقيمته، يُحب طريقه، ويجد في مدرسته أول اعتراف بوجوده.

الشارع والفضاء العام: من فوضى اللامبالاة إلى المسؤولية الجماعية

الفضاء العام هو ذلك المشترك الذي يجمعنا مهما اختلفت طبقاتنا. نحتاجه جميعًا في كل تفاصيل الحياة وحتى الممات. إنه الميدان الذي تُختبر فيه طباع الناس على حقيقتها، ويظهر فيه ما تشرّبوه من بيوتهم: من تربّى على الحياء، لم يصرخ في الشارع، ومن شبّ على الاحترام، لم يتعدى على الملك العام.

لقد كان المغاربة، في تقاليدهم القروية والحضرية، يُعلّمون أبناءهم أن للطريق حقًا، وأن “إماطة الأذى عن الطريق صدقة”.
وكانت صور التضامن العفوي من أساسيات الحياة: طبق كسكس يُخرج للمحتاجين يوم الجمعة، وباب الجار يُطرق دون موعد وقت الضيق أو الفرح. في الأسواق، كان الحرفيون يتشاركون في تنظيف الشارع، وتزيينه، ورش الماء أمام المحلات. وفي البوادي، كانت الأسر تتعاون على تعبيد الطرق، و”تتفارض” من أجل شراء محرك كازوال لإنتاج الكهرباء، دون انتظار جماعة أو ميزانية. الصغار ينادون الكبار باحترام كأنهم أقاربهم (“عمي”، “خالتي”)، والناس تخاطب الغرباء بألقاب التمجيد (“سيدي”، “لالة”).

أما اليوم، ومع تحوّل الدولة إلى فاعل مركزي في كل شيء، تراجع هذا الحس الجماعي، وانكمش مفهوم التضامن، وحلّ محله منطق الحق والاستهلاك. مقعد الحديقة يُكسَر لأنه “فلوس الدولة”، والنفايات تُلقى في الشارع لأننا نؤدي ضريبة نظافة، والحائط يُشوَّه لأن “المرحاض و سلة القمامة بعيدة”، الحافلة تُخرّب لأن الدولة “حاكرانا”، والسيارات “تُشرط” حقدًا على صاحب المال. وكأنّ الشارع وأملاك الغير أصبحت مستباحة، جاز فيها التعبير عن المكبوت. بينما الحقيقة أن المرفق العام هو أغلى ما نملك جميعًا، لأنه مساحة نلتقي فيها متساوين بلا امتياز ولا وساطة.

نريد أن نعود إلى المسؤولية الجماعية عن الملك العام. أن يخجل الإنسان من إزعاج غيره لا من عقوبة الشرطي، وأن يستحيي أن يصرخ، أو يتجاوز، أو يرمي الأذى، لأنه يشعر أن الشارع بيت، وأن المرفق المشترك امتداد لكرامته، لا فضاءً لا يعنيه.

الإعلام والفضاء الرقمي: من لهفة الفضيحة إلى مسؤولية التنوير

في عصر الصورة والميتافيرس، لم يعد الإعلام مجرّد وسيلة لنقل الخبر، بل أصبح السلطة الناعمة الأولى التي تُربّي، وتُوجّه، وتُرسّخ القيم والسلوك. فإذا كان الطفل اليوم يقضي ساعات أمام الهاتف أكثر مما يقضيها مع والديه، فإن القيم التي يتبناها لم تعد تلك التي يلقَّن من أبويه وأساتذته، بل تلك التي يشاهَد، ويشارك، ويستهلك دون رقابة.

في ظل هذا الحضور الطاغي، تصبح مسؤولية الإعلاميين والمؤثرين مضاعفة، لأن الكلمة والحركة اليوم لا تموت بانتهاء اللقطة، بل تبقى وتنتشر وتُعيد التشكيل المستمر للضمير والسلوك العام.

لقد أصبحنا نعيش مفارقة مؤلمة. فكما أن هناك مواقع وصفحات عديدة تثلج الصدر بنشرها لأعمال اجتماعية أو معرفية أو ثقافية أو مهنية أو وطنية أو فنية هادفة، فهناك بحر من المواقع والصفحات تقتات على الفضيحة وتعيش على “البوز”، بلا رسالة ولا وعي بعواقب ما تنشر. لقد ابتُلينا بفضائح يندى لها الجبين، شباب بل وشيّاب يقضون أعمارهم في نشر التفاهة، يتنافسون على “البوز” و”التكبيس” كأنّنا أمة لا قضية لها إلا في فيديو مخلّ أو تعليق ساقط. وتجد “الطوندونس” المغربي مليئا بقنوات التفاهة التي ليس همها إلا زواج فتيحة وطلاق عمران. لا يجدر بمجتمع عريق كمجتمعنا أن يفسح المجال لصفحات تغرق الساحة بالتفاهة، وتُطبّع مع التنمّر والنميمة، وتسمّم الذوق الجماعي من أجل شهرة عابرة ودريهمات معدودة.

فإذا كانت الحرية هي الأصل في الإعلام، فإن المسؤولية هي المسار، والمحاسبة هي الإطار. نريد أن يؤطر الإعلامي بالمعرفة والمسؤولية، وأن يُعلَّم الشاب أن للنشر غاية ووراءه تبعات، وأن الكلمة توقيع على القيم، وأن المنصّة ليست أداة تنفيس عن الأهواء، بل منبرًا للتعبير المتزن والمفيد.

في المغرب الذي نريده، نريد مؤثرًا لا يُلاحق الشهرة، بل يُضيء العقول. نريد منصات تُعلّم بشغف، وتُرفّه باحترام، وتُخبر بمصداقية، وتنشر الفضيلة والصورة الحسنة. فالطبع غلّاب، والتكرار يصنع العادة، وما نراه كل يوم، نتبناه في النهاية دون أن نشعر.

خاتمة
في زمن السرعة وزحمة الشعارات وتدافع السياسيين… نكاد ننسى أن الأخلاق ليست أوامر ونواهي، بل ضميرا حيا وسلوكا واعيا.
التخلق ليس وصفة جاهزة، بل طريق طويل من التربية والتدرّب، من التذكير الفردي والمصاحبة الجماعية.

في هذا المقال، نزلنا من هرم الدولة إلى نسيج المجتمع. وقفنا على عتبات بيت الأسرة، واستمعنا لهموم المدرسة، وتأملنا سلوك الناس في الشارع، وتابعنا صدى القيم في الشاشات والمواقع. رأينا كيف أن القيم تبنى من القاعدة، وأن التغيير لا يبدأ من الأعلى فقط، بل من حب أم، وصبر أب، ورأفة معلم، واحترام راكب، ومسؤولية إعلامي، وكلمة واعية لمؤثر.

لكن المغاربة لن يعيشوا فقط بالأمثلة المتفرقة، بل يحتاجون إلى رؤية موحدة، وبوصلة أخلاقية جامعة. ومن هنا، نحتاج إلى ميثاق، لا يُراد له أن يُعلّق على الجدران، بل أن يُغرس في الضمير، ويظهر في السلوك.

في المقال القادم، سنحاول أن نرسم ملامح هذا الميثاق. ميثاقً لا نريده نصا قانونيًا، ولا خطابًا وعظيًا، بل صيغة إنسانية مغربية، تُلخّص ما نحلم أن نكونه حين نُحب هذا الوطن بصدق، ونحترم أنفسنا فيه بعمق، ونسلمه لأطفالنا بأمانة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

الجامعة بين فضائح العابرين وضمير الأساتذة المقيمين

المنشور التالي

“تبادل الأزواج” يهز البصرة.. 27 موقوفًا

المقالات ذات الصلة