بلاغ الديوان الملكي الأخير حمل في طياته تحولا دالا في فلسفة تدبير الشأن السياسي، حين وجه رسالة واضحة نحو تبسيط شروط الترشح للانتخابات بالنسبة للشباب دون الخامسة والثلاثين، خاصة أولئك الراغبين في خوض غمار التجربة الانتخابية بصفة مستقلة. إنها إشارة عميقة إلى وعي الدولة بأن تجديد الدماء لا يمكن أن يتم فقط عبر المسالك التقليدية للأحزاب، بل من خلال فتح المجال أمام الكفاءات والطاقات الشابة التي تمتلك الحافز والرؤية، ولو خارج الإطارات التنظيمية القائمة.
هذا القرار يعكس فهما متقدما لطبيعة التحولات المجتمعية التي جعلت جزءا واسعا من الشباب ينأى بنفسه عن الانخراط الحزبي بسبب فقدان الثقة في الوسائط السياسية التقليدية. فتمكين هؤلاء من الترشح بشكل مستقل ليس خصما من رصيد الأحزاب، بل إثراء للحياة السياسية وإعادة توازن لمعادلة التمثيلية التي ظلت لعقود حكرا على النخب الحزبية. الدولة هنا لا تكافئ العزوف، بل تفتح الباب للمشاركة بمعناها النبيل، أي أن يكون المواطن فاعلا في صناعة القرار لا متفرجا على نتائجه.
كما أن التوجه نحو تسهيل المساطر القانونية أمام المرشحين المستقلين يعبر عن رغبة صريحة في إزالة العوائق الإدارية والمالية التي طالما كانت حاجزا أمام الطاقات الشابة. فحين تلتزم الدولة بتغطية 75 في المائة من مصاريف الحملات الانتخابية لهؤلاء المرشحين، فهي لا تقدم منحة انتخابية بقدر ما تمنح اعترافا بكفاءة الشباب وحقهم في المنافسة المتكافئة على مقاعد البرلمان. إنها خطوة في اتجاه إعادة توزيع الفرص داخل المجال السياسي، على أساس الجدارة لا الولاءات.
غير أن جوهر الرسالة لا يقف عند حدود التيسير الإجرائي، بل يتجاوزها إلى تأكيد أن الإصلاح الحقيقي لا يتم عبر الصخب الرقمي أو الشعارات الاحتجاجية، وإنما من داخل المؤسسات المنتخبة التي يخولها الدستور شرعية التمثيل. الدولة تقول بوضوح إن من أراد التغيير فليترشح، ومن أراد أن يسمع صوته فليخضع لحكم الصندوق. فالديمقراطية لا تستقيم إلا حين يتحمل المواطن مسؤوليته في الاختيار والمساءلة والمبادرة.
بهذا المعنى، فإن انفتاح الدولة على جيل جديد من الفاعلين السياسيين المستقلين لا يعني القطيعة مع الأحزاب، بل هو توسيع لدائرة المشاركة وتجديد للنخب بما يحفظ توازن المشهد. فالأحزاب ستظل فضاء مهما للتأطير، لكن السياسة لا يمكن اختزالها فيها. هناك فسحة أوسع للمبادرة والمواطنة الفاعلة، والقرار الملكي جاء ليمنح تلك الفسحة مشروعية قانونية ومؤسساتية.
إنها لحظة فارقة في مسار إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، وبين السياسة والمجتمع. لحظة تقول إن الطريق إلى الإصلاح يمر عبر المؤسسات لا حولها، وإن الوطن لا يحتاج إلى الانقسام بين حزبي ومستقل، بل إلى التقاء الطاقات المؤمنة بالتغيير في خدمة المصلحة العامة. بهذا المعنى، فالرسالة الملكية ليست مجرد تعديل في القوانين الانتخابية، بل إعلان عن ولادة أفق سياسي جديد عنوانه: السياسة حق للجميع، ومجال مفتوح لمن يملك الكفاءة والإرادة.