هل يتآمر المغرب على الجزائر؟ حوار هادئ في زوابع الاتهام (الحلقة الرابعة)

بقلم الدكتور أحمد أزوغ: أستاذ باحث، مدير ماستر للذكاء الاصطناعي بباريس

كان صباحًا رماديًا من صباحات الخريف الباريسي، حين التقينا قرب ساحة الباستيل، في المكان الذي لم تبقَ فيه من سجن الطغيان القديم إلا حجارة مبعثرة على الرصيف، وشعلة ثورة ما زالت تتقد في ذاكرة الشعوب. جلسنا على مقعد حجري، يتوسطه نقش صغير يروي سقوط سجن الباستيل سنة 1789، حين اقتحم الفرنسيون سجنًا كان رمزا للخيانة والمؤامرات.

أخرج لطفي من حقيبته جريدة جزائرية، وعرض صفحتها الأولى وعليها عنوان بخط عريض:
“المغرب يحيك مؤامرة صامتة ضد الجزائر”
ابتسم بسخرية وقال:
– أحمد، لقد فهمت علاقتكم الوطيدة مع الصحراء وما تمثل لكم من امتداد، وفهمت كذلك موقفكم مما يسمى بالصحراء الشرقية، لكنك لا يمكن أن تتجاهل أن هناك حربًا كبيرة يخوضها المغرب ضد المصالح الجزائرية في المنطقة: أنبوب غاز من نيجيريا، التحالف مع الأنظمة الجديدة في دول الساحل، التغلغل الديني في إفريقيا، تحالف ضدنا مع إسرائيل، حرائق منطقة القبائل، وحتى في كرة القدم لم تسلم الجزائر منكم. أليست هذه مؤامرة صريحة وممنهجة من نظامكم ضد الجزائر؟ إنكم تحاصروننا من كل جانب!

ضحكت بهدوء وأنا أرتب وشاحي، ثم قلت:
– لطفي، أفهم مشاعر الريبة التي اعترت شعبكم، فإعلامكم يعمل عندكم صباح مساء لغرس نظرية المؤامرة في أذهانكم.

أجابني قائلاً:
– صراحة يا أحمد، في البداية قلت ذلك، لكن صراحة ليس هناك دخان من دون نار.

أجبته بلطف:
– لطفي، أنا لا أنكر أن هناك خصامًا، بل قطيعة بين البلدين ظاهرة في كل محفل. وقد فسرت لك أن سبب ذلك هو إصرار الجزائر على مساندة وتسليح حركة انفصالية تحارب المغرب. لكن مؤامرة محاصرة الجزائر ليس لها أساس، وباستطاعتي أن أجيبك عن تلك المواضيع واحدًا واحدًا، وستجد أن ما بناه إعلامكم بذهنكم إنما هو جبل من قش.

قال لطفي:
– طيب، أجبني إذن عن موضوع أنبوب الغاز النيجيري عبر المغرب إلى أوروبا. أليست هذه منافسة صريحة للغاز الجزائري، والتفافًا على مشروعنا نحن مع نيجيريا عبر النيجر؟

أجبت مبتسمًا:
– عجيب منطقكم يا لطفي، وهل منعكم المغرب من بناء أنبوب غازكم مع نيجيريا؟ أم هل تريدون أن يمول المغرب بناءه؟ أتعلم أن المفاوضات حول الأنبوب النيجيري الجزائري بدأت في التسعينات، وأن دراساته الأولية أُنجزت بداية الألفية؟ أتعلم متى تم توقيع اتفاقية الإطلاق الرسمي لأنبوب المغرب–نيجيريا؟ سنة 2016. ألم يكن لديكم الوقت الكافي لإنجاز هذا الأنبوب؟

رد متعجبًا:
– صدقت، فماذا حدث إذن؟ هل استطعتم استمالة نيجيريا لصفكم لمنعها من إكمال المشروع؟

أجبت ممازحًا:
– ألا تعرف يا لطفي أن نيجيريا حليفتكم التاريخية في إفريقيا، وأنها ما زالت تعترف بالبوليساريو؟

بدت علامات التعجب على وجهه، فأكملت:
– نيجيريا يا صديقي، وكل الدول الجادة، لا تعرف إلا منطق الربح والخسارة في مصالحها الخارجية. إن مشروع أنبوبكم فيه مشكل هيكلي، وهو مروره عبر الصحراء الكبرى حيث تعيث عصابات الإرهاب والتهريب فسادًا دون رقيب. إنه أنبوب يصعب بناؤه، ومن المستحيل تأمينه بعد ذلك. أما أنبوب المغرب–نيجيريا، فهو أنبوب مهيكل لكل دول غرب إفريقيا، إنه مشروع اندماج للمنطقة ككل قبل أن يكون مشروع تصدير للغاز النيجيري نحو أوروبا. فهو سيسمح للدول التي يمر عبرها بتأمين احتياجاتها من الطاقة، بما يسمح بتطويرها اقتصاديًا واجتماعيًا، وسيسمح للدول المنتجة بتصدير غازها للدول الأخرى، ومن ثم لأوروبا. لذلك رأيت كل هذا التهافت على تمويل بناء هذا المشروع المهيكل من عدة أطراف دولية. بل إن تدفق الغاز قد يبدأ قبل 2030.

قال لطفي بحدة:
– طيب، وماذا عن زحفكم الاقتصادي في إفريقيا؟ البنوك، الاتصالات، النقل الجوي… هل هي صدفة أن تتوسعوا في محيط الجزائر؟!

أجبته متعجبًا:
– وهل نحن وحدنا هناك؟ ألم تسبقنا تركيا والصين وروسيا باستثمارات أوسع منا؟ وقبل ذلك فرنسا التي احتلت المنطقة وما زالت تهيمن عليها اقتصاديًا. لمَ لم تسمّ ذلك حصارًا؟

أومأ مفكرًا، فاستكملت حديثي:
– بالعكس يا لطفي، المغرب آمن منذ سنوات بأهمية القارة الإفريقية، وأنها أهم فرصة للاستثمار. الآخرون يفعلون ذلك أيضًا، لكن المغرب لا يبيع فقط، بل يستثمر وينشئ المصانع ويشغّل اليد العاملة في إفريقيا. لقد استثمرنا في أكثر من 40 دولة إفريقية لأننا نؤمن بمنطق رابح–رابح. نحن نوقّع اتفاقيات، نبني مشاريع، نُدرّب الشباب، ونستثمر رؤوس أموال مغربية في تنمية إفريقية، لأن مستقبلنا هناك. الجزائر تستطيع أن تفعل الشيء نفسه، لا أحد يمنعها. فلماذا ترى في تقدمنا مؤامرة؟

توقف لطفي ثم قال مستنكرًا:
– لو أنكم اقتصرتم على دول بعيدة لفهمنا، لكنكم تستهدفون دولًا مجاورة لنا تمامًا من الجنوب، كمبادرة “فتح واجهة الأطلسي” تجاه دول الساحل؟ إنكم تصنعون محورًا حليفًا لكم يطوّق الجزائر من الجنوب!

قلت بابتسامة ساخرة:
– أتعرف لماذا لديكم هذا الإحساس؟ لأنكم بكل بساطة تتصورون الاقتصاد بمنطق “الوزيعة” والغنيمة. ليس دولتكم وحدها، بل كل الدول التي يهيمن عليها حكم العسكر تجد اقتصادها يُقتسم بين الجنرالات: هذا يحتكر الغاز، وذاك يحتكر السيارات، والثالث يحتكر المواد الغذائية… يتاجرون مع المواطنين كما لو أن موارد البلاد ملكهم. هذا نفسه ما تتصورونه بجيرانكم. لطالما اعتبرت الجزائر دول الساحل حديقتها الخلفية التي لا يحق لأحد التحاور معها إلا عبر الجزائر. إن ذلك المنطق البائد قد ولى يا لطفي.

تلك الدول اليوم في مرحلة سياسية انتقالية تبحث عن استقلاليتها من كل تبعية، وبعد أن نبذتها كل الدول والمنظمات، فتح لها المغرب ذراعيه عارضًا عليها أملًا واعدًا بالوصول إلى المحيط الأطلسي، وعبره مباشرة إلى العالم، من خلال ميناء الداخلة المهيكل. إن هذه الدول التي تعاني من الهجرة غير الشرعية، والفقر، والعزلة، والإرهاب، ترى في ذلك المشروع بارقة أمل تركب بها قطار التنمية. فهل يجب تشجيع مشروع كهذا أم مناكفته؟

قال لطفي:
– وتكوينكم لأئمة من مالي والنيجر وتشاد؟ أليس هذا تغلغلًا دينيًا لتصدير “إسلامكم الملكي” باسم إمارة المؤمنين؟ ألا تريدونهم تحت طوعكم؟

أجبته بجدية:
– أنت أول من يعلم يا لطفي أن الإرهاب هو أكبر آفة عانت منها دول الساحل والصحراء، وأخّرها عن التقدم لعشرات السنين. ألم تعان الجزائر نفسها من الإرهاب وفقدت آلاف الأرواح بسبب الفهم الخاطئ للدين؟ لقد عززت الجزائر والمغرب أمنهما في مواجهة الجماعات المتطرفة، لكن المغرب يؤمن أن المقاربة الأمنية وحدها لا تكفي. بل لا بد من مقاربة استباقية تبدأ من المنبع، تحصّن الشباب من الوقوع في الغلو والتطرف، وذلك عبر التربية الدينية الصحيحة.

لطالما استورد الأفارقة فهمًا غريبًا عن ثقافتهم، وقد حان الوقت لتكوين الأئمة تكوينًا صحيحًا يوحّد المذهب في الغرب الإفريقي ويضيّق مساحة الخلاف. لسنا اليوم بحاجة إلى خلاف المذاهب، بل إلى مرجعية موحدة ومذهب مستقر. إن المغرب، المشهود له عالميًا بوسطية منهجه الديني واعتداله، أخذ على عاتقه إعادة تكوين هؤلاء الأئمة على العقيدة المالكية الأشعرية السمحة التي لطالما سكنت إفريقيا منذ عهد المرابطين. وكلنا أمل بأن تشفى إفريقيا من داء التطرف الذي ينخرها عبر مرجعية دينية ثابتة وأصيلة.

استرسل لطفي بنبرة غاضبة:
– على ذكر الإرهاب والمسألة الدينية، إن تطبيعكم العلاقات مع إسرائيل وتحالفكم معها هو أكبر طعنة لنا وللفلسطينيين. كيف تجرأتم على التطبيع مع عدو يقتل الأطفال والنساء في غزة دون رقيب؟

أجبته بهدوء:
– لطفي، المغرب لم يتحالف ضد أحد، لا ضد الجزائر ولا ضد فلسطين، بل على العكس تمامًا. المغرب أعاد علاقات دبلوماسية كانت قائمة منذ زمن طويل. عليك أن تعلم أن اليهود من أصل مغربي في إسرائيل هم ثاني أكبر جالية هناك، بما يقارب مليون شخص. ثم إن المغرب لم يفعل إلا إعادة فتح مكتب الاتصال الذي كان يشتغل منذ 1994 في عهد الملك الحسن الثاني، ثم أغلق عام 2000 بسبب الانتفاضة الثانية، وأُعيد فتحه سنة 2020 ضمن اتفاق ثلاثي مع الولايات المتحدة. هل تعلم يا لطفي أن هذا الاتفاق جاء في وقت كانت الجزائر تحشد فيه دباباتها قرب الحدود المغربية، مهددة عبر أبواقها الإعلامية باقتحام المغرب واحتلال الرباط في 24 ساعة؟ ألا ترى أن للجزائر مسؤولية في تسريع هذا التقارب بين المغرب وإسرائيل وأمريكا؟

أجابني لطفي:
– لكن، هل تقبل أن يكون ذلك على حساب القضية الفلسطينية؟ قضية كل العرب والمسلمين؟

أجبته بإصرار:
– لا أبدًا. لم يتم ذلك على حساب القضية الفلسطينية. فالبلاغ نفسه الذي وجهه الملك إلى الشعب المغربي حين أعلن الاتفاق الثلاثي، أكد أن قضية فلسطين لها نفس المكانة التي تحتلها قضية الصحراء المغربية في السياسة الخارجية للمغرب.
والمغرب لم يتخل يومًا عن فلسطين، لا في القدس، ولا في غزة. فالملك يرأس لجنة القدس، ويموّلها، والمساعدات، سواء لغزة أو للضفة أو للقدس، لا تنقطع. لكن المغرب أصبح أكثر براغماتية. فبعد سنوات من المقاومة المسلحة، وسنوات من القطيعة الدبلوماسية، واللتين لم تجديا نفعًا، فإن رؤية المغرب اليوم هي أن يستثمر علاقاته مع إسرائيل وأمريكا للبحث عن حل عادل ودائم عبر إقامة دولة فلسطينية على حدود 67، عاصمتها القدس الشرقية.

قد لا ينجح هذا المنهج مع حكومة إسرائيل الحالية التي ترتكب جرائم حرب، لكنه منهج يستحق التجربة. وهو نفس المنهج الذي تعتمده مصر وتركيا والأردن، فلماذا تهاجموننا نحن، ولا تهاجمونهم؟

أجاب لطفي بنبرة حازمة:
– لأن تطبيعكم لم يقتصر على الدبلوماسية، بل تجاوزه إلى مستويات أخرى، علمية وتقنية، بل وعسكرية. إنكم تسارعون في التطبيع بخطوات حثيثة.

قلت له موضحًا:
– فعلاً، كان شيء من ذلك قبل الحرب على غزة. لكن المجتمع المغربي مجتمع حي. ألا ترى حجم المظاهرات التي تخرج أسبوعيًا في شوارع المغرب نصرةً لفلسطين؟
ثم ألا ترى كيف تفتح الدولة المجال لمظاهرات مليونية ضد إسرائيل؟ هل تظن أنها تترك ذلك عبثًا؟ إنها رسالة لإسرائيل نفسها، أن المغرب الرسمي مثل الشعبي مستاء من جرائمها ضد الفلسطينيين.

بالمناسبة يا لطفي، لمَ لا نشاهد مظاهرات كهذه في المدن الجزائرية؟

أجاب لطفي بحرج:
– صحيح أن مجال التعبير عبر المظاهرات في الجزائر أضيق، لكن تحالفكم مع إسرائيل موجه ضدنا نحن أيضًا. ألم يزر وزير دفاعهم الرباط سنة 2021، وصرح من هناك بما يفهم أنه تهديد للجزائر؟ هذا أكبر دليل على تآمركم!

أجبته نافيًا:
– لا يا لطفي، تلك الزيارة كانت في إطار تعزيز الصناعة العسكرية المغربية، والتي تجمعنا فيها شراكات مع دول عديدة، من بينها أمريكا، والهند، وباكستان. أما اتهامكم لنا بأن الوزير الإسرائيلي هددكم من الرباط، فليست سوى مزايدات إعلامية، خالية من أي تصريح رسمي.

كان الأجدر أن تكتفوا بخطاب العرش الذي ألقاه الملك قبل 3 أشهر من تلك الزيارة، وقال فيه بالحرف: ” أن الشر والتهديد لن يأتي أبداً من المغرب، وأن ما يمس أمن الجزائر يمس أمن المغرب”. أليست هذه دعوة صادقة من أعلى سلطة في البلاد لإعادة بناء الثقة؟

قال لطفي بعد صمت:
– فعلاً، الموضوع معقد… لكن ماذا عن حرائق منطقة القبائل سنة 2021؟ وعن “مؤامرتكم” لمنعنا من التأهل إلى كأس العالم في قطر؟

قهقهت وقلت ممازحًا:
– وماذا عن خروجكم من الدور الأول لكأس أمم إفريقيا؟ وماذا عن جفاف عشب الملاعب في الجزائر؟ هل كنا نحن السبب في ذلك أيضًا؟

ضحكنا معًا، ثم استرسلت جادًا:
– إسمع يا لطفي، لو كنا رشينا الحكم الذي أدار مباراتكم ضد الكاميرون، لماذا لم نرشه حين أدار مبارياتنا في كأس إفريقيا وأقصينا من ثمن النهاية؟
وأما الحرائق، فهذه اتهامات تُسيء إليكم أكثر مما تُسيء إلينا. بل عرضنا عليكم المساعدة عبر طائرات “كانادير” المغربية لإطفاء النيران، ورفضتم! ألهذا الحد تفضّلون احتراق غاباتكم على أن يساعدكم المغرب؟

أجاب متحسرًا:
– فعلاً يا أحمد… الخلاف بين دولتينا أمر محزن. أتدري؟ لقد أثار هذا النقاش شهيتي. ما رأيك أن نذهب لمطعم جزائري ونتقاسم كسكسًا جزائريًا؟

ضحكت وقلت:
– أنا لا أفضّل إلا الكسكس المغربي!

فأجاب ساخرًا:
– وهل هناك شيء اسمه كسكس مغربي؟ أم أنكم فقط تريدون الاستيلاء على ثقافتنا؟

ضحكت مجيبًا:
– الكسكس عندنا كما هو عندكم يا لطفي. لكن دعنا نؤجل هذا النقاش إلى لقائنا القادم، ونفتح فيه ملفًا آخر: التراث المشترك… من يملك الكسكس والطاجين والزليج والقفطان؟ الجزائر أم المغرب؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

إيران تشترط ضمانات أمريكية لاستئناف المحادثات النووية

المنشور التالي

ليبيريا تؤكد دعمها الثابت لمغربية الصحراء وتثمّن مخطط الحكم الذاتي

المقالات ذات الصلة