في خرجة إعلامية مثيرة، حاول وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف أن يقدّم رواية جديدة للهزيمة الدبلوماسية التي تلقتها بلاده عقب القرار الأممي الأخير بشأن الصحراء المغربية. فبين حديثه عن “تفاصيل تقنية” منعت الجزائر من التصويت لصالح القرار، وتأكيده أن بلاده “مع الحكم الذاتي ولكن ليست مع السيادة المغربية”، بدا الرجل كمن يحاول إعادة تعريف المفاهيم الدولية وفق قاموس خاص، في محاولة يائسة لتبرير موقف مرتبك أمام الداخل والخارج. فكيف يمكن أن تدعم الجزائر “الحكم الذاتي” وهي ترفض “السيادة الوطنية” التي تمنحه معناه القانوني والسياسي؟ إن ما قاله عطاف لم يكن زلة لسان، بل ترجمة دقيقة لسياسة هروب إلى الأمام يمارسها نظام مأزوم يحاول إقناع شعبه بأن معركته الوهمية لا تزال قائمة.
هذا التناقض الفاضح لا يمكن فصله عن السياق الأوسع الذي تعيشه الجزائر اليوم، إذ يجد النظام العسكري نفسه أمام مأزق تاريخي بعد نصف قرن من إنفاق مليارات الدولارات على قضية لا تخص الشعب الجزائري، بل صُنعت لتبرير وجود سلطة لا تملك مشروعية داخلية سوى العداء للمغرب. لكن مع مرور الوقت، تحولت هذه القضية إلى عبء ثقيل ينهش صورة الدولة ويكشف إفلاسها الدبلوماسي. فقرار مجلس الأمن الأخير لم يكن مجرد نص أممي جديد، بل شهادة وفاة سياسية لأطروحة الانفصال التي كانت الجزائر تراهن عليها كورقة ضغط دائمة.
لذلك جاءت خرجة عطاف كرقصة اضطرارية أمام واقع لا يمكن إنكاره. فقد حاول الرجل التخفيف من وقع العزلة الدولية التي باتت تخنق بلاده، مستعملاً خطاباً مزدوجاً يجمع بين لغة الانفتاح المزعوم وتكرار شعارات العداء القديمة. غير أن هذا التوازن المصطنع لم يعد يخدع أحداً، لا في الداخل ولا في الخارج. فالشعب الجزائري الذي يراقب تآكل اقتصاده واهتراء مؤسساته، بدأ يدرك أن المليارات التي أُهدرت في رمال الصحراء كان يمكن أن تبني مستشفيات وجامعات ومشاريع تنموية تحفظ كرامته. والمجتمع الدولي بدوره لم يعد يرى في هذا الخطاب سوى تكرار لمسرحية فقدت جمهورها.
يجد النظام الجزائري نفسه اليوم بين نارين: نار الاعتراف بفشل مشروعه الانفصالي، ونار مواجهة الغضب الشعبي الذي يتساءل عن جدوى نصف قرن من العداء المجاني مع المغرب. وفي خضم هذا المأزق، قد يبدو التقرب من الرباط خيارا اضطراريا أكثر منه قناعة سياسية. فالجزائر التي ترفض أن تعترف بالهزيمة علنا، تبحث في الكواليس عن مخرج يحفظ ماء الوجه ويحد من الخسائر. لكنها إن أرادت فعلا الخروج بأقل الأضرار، فعليها أن تبدأ بالصدق مع نفسها ومع شعبها، لأن زمن الأكاذيب انتهى، ولأن وزير خارجيتها أحمد عطاف مهما أجاد الدور، لا يستطيع إخفاء أن الرقصة الأخيرة للنظام قد بدأت فعلا.