بقلم هارون التازي من واشنطن:
في واقعة غير مسبوقة تضع الأمن القومي الأميركي في دائرة الشك، وجد الصحافي جيفري غولدبرغ، رئيس تحرير مجلة ذا أتلانتيك، نفسه في بداية مارس 2025 داخل مجموعة مراسلة سرية على تطبيق “Signal”، تضم كبار المسؤولين الأميركيين، وهم يناقشون تفاصيل دقيقة عن خطط عسكرية لضرب جماعة الحوثيين في اليمن. هذا الانكشاف الخطير وقع بسبب خطأ فادح ارتكبه مستشار الأمن القومي، النائب مايك والتز، الذي أضاف غولدبرغ عن غير قصد إلى مجموعة مغلقة يفترض أن لا يدخلها سوى أرفع مسؤولي الدولة.
المجموعة التي تم إنشاؤها يوم 11 مارس 2025 كانت تضم 18 مسؤولًا رفيع المستوى، منهم نائب الرئيس جيه دي فانس، ووزير الدفاع بيت هيغسيث، ووزير الخارجية ماركو روبيو، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية جون راتكليف. في الأيام التالية، بدأت المحادثات تتضمن تفاصيل حساسة، مثل مواقع الأهداف الحوثية، أنواع الذخائر الذكية المستخدمة، وتوقيت تنفيذ الغارات، والتي كانت مقررة يوم 15 مارس. كل ذلك كان يُناقش دون أن يدرك الأعضاء أن بينهم صحافيًا مستقلاً.
بحلول يوم 13 مارس، بدأ غولدبرغ يدرك فداحة ما يُكشف أمامه، وقام بإبلاغ أحد معارفه في مجلس الأمن القومي بما جرى. هذا التصرف، رغم التزامه الأخلاقي، أدى إلى فتح تحقيق عاجل داخل البيت الأبيض، بينما كانت الغارات الأميركية تُنفّذ بالفعل يوم 15 مارس، مستهدفة مخازن للطائرات المسيّرة ومراكز قيادة تابعة للحوثيين. لكن التوقيت الدقيق لما حصل كشف عن ضعف التنسيق الأمني، وأثار تساؤلات عميقة داخل واشنطن.
في 16 مارس، انتشرت أنباء الحادثة عبر صحيفة “بوليتيكو”، مما أدى إلى موجة انتقادات حادة ضد إدارة الرئيس الأميركي، الذي وُضع في موقف محرج محليًا ودوليًا. تم استدعاء مستشارين للأمن القومي للاستجواب، وأعلنت وزارة الدفاع عن مراجعة شاملة للبروتوكولات المتعلقة باستخدام تطبيقات المراسلة المشفّرة، خاصة في محادثات الطوارئ العسكرية أو تلك المتعلقة بعمليات في مناطق حساسة.
هذه الحادثة، التي بدأت بخطأ رقمي صغير، كشفت هشاشة مفزعة في منظومة كان يُفترض أنها مضادة للاختراق. في زمن تُدار فيه الحروب من خلف الشاشات، كانت هذه الصفعة التقنية كفيلة بهز ثقة المواطنين والمؤسسات بالحواجز التي تحمي أسرار الدولة. ومن المفارقة أن من كشف الخلل لم يكن جاسوسًا، بل صحافيًا لم يُطلب منه سوى أن يراقب… فوجد نفسه وسط غرفة القرار.