ليست مجرد قرعة لكأس العالم تلك التي احتضنتها واشنطن. كانت حدثا يشبه إعلان دولة جديدة: “دولة الفيفا”؛ دولة بلا حدود، تتقدّم فيها الرياضة الدبلوماسية، ويجلس رؤساء الدول جنبا إلى جنب، لا لبحث اتفاقيات التجارة أو مناقشة الأزمات الجيوسياسية، بل فقط لإعطاء إشارة الانطلاق لقرعة بطولة كروية. مشهد غير مسبوق جمع الرئيس الأمريكي ورئيسة المكسيك ورئيس الوزراء الكندي في منصة واحدة، وكأن الكرة صارت اللغة الوحيدة التي يتفاهم بها العالم عندما تتعثر الدبلوماسية.
هذا الحضور الرفيع لم يكن عبثيا، بل هو رسالة واضحة: الرياضة اليوم صارت محركا رئيسيا للسياسة والاقتصاد والنفوذ الدولي. من يعتقد غير ذلك، لم يعد يفهم طبيعة العالم الجديد، حيث صارت كرة القدم أداة تأثير ناعمة تفوق في قوتها الكثير من مؤسسات الضغط التقليدية. يكفي أن مباراة واحدة بإمكانها أن تُحرّك سوق الإعلانات أكثر مما تفعل حملات انتخابية كاملة.
ولعل البعض ممن ما زالوا يقلّلون من شأن استضافة المغرب لكأس العالم لسنة 2030، ويعتبرونها مضيعة للوقت أو استثمارا غير ضروري، عليهم أن يتأملوا جيدا ما حدث في واشنطن. لو كانت كأس العالم مجرّد “حدث رياضي”، هل كانت أقوى دولة في العالم ستسخّر أعلى هرم السلطة لحضور قرعة؟ هل كانت المكسيك وكندا ستتعاملان مع البطولة بوصفها مشروع دولة وليس مجرّد تظاهرة؟
إن المغرب اليوم لا يدخل غمار تنظيم كأس العالم كمغامرة، بل كخطوة استراتيجية تعكس طموحه القاري والدولي. المملكة تستثمر في بناء صورة بلد مستقر، منفتح، قادر على استقبال العالم، وفي الوقت نفسه تُعزز موقعها في خريطة الاقتصاد الرياضي والسياحة والاستثمار. هذه المشاريع ليست “رفاهية”، بل جزء من معركة الدول الحديثة من أجل المكانة والتأثير.
واشنطن قدّمت الدرس بشكل واضح: من لا يفهم قيمة كرة القدم، لا يفهم ديناميات القوة في القرن الحادي والعشرين. ومن لا يرى في كأس العالم فرصة تاريخية، سيستيقظ متأخراً على واقع أن الدول التي تؤمن بقوة الرياضة تُصنع لنفسها مقعداً متقدماً في نظام عالمي سريع التحول.
لهذا، فإن استضافة المغرب لكأس العالم ليست مشروعا ترفيهيا. إنها إعلان بأن البلاد مستعدة للعب في دوري الكبار، مستعدة لفتح اقتصادها على آفاق جديدة، ومستعدة لإظهار هويتها الثقافية والحضارية أمام ملايير المتابعين.
قرعة واشنطن لم تكن مجرد حدث، بل كانت خارطة طريق تُذكّرنا بأن كرة القدم اليوم ليست لعبة، بل قوة ناعمة تُعيد تشكيل العالم، والمغرب بإستطاعته دخول هذه القوة من بابها الواسع.