في خضم نقاش عمومي محتدم حول أزمة القطيع الوطني، وما رافقها من جدل سياسي وشعبي بشأن وفرة الأضاحي وأسعارها، برز بلاغ الديوان الملكي الصادر عقب المجلس الوزاري ليؤكد على حرص الملك محمد السادس على تتبع القطاعات الحساسة بشكل مباشر، وعلى اعتماد مبادئ الشفافية والمساءلة والنجاعة في كل ما يمس الحياة اليومية للمواطنين، ليضع حداً لمنطق التدبير المرتجل أو غير المؤطر بمعايير واضحة.
وقد أكد البلاغ أن “الملك محمد السادس أصدر توجيهاته قصد الحرص على أن تكون عملية إعادة تكوين القطيع ناجحة على جميع المستويات، بكل مهنية، ووفقاً لمعايير موضوعية، وأن يوكل تأطير عملية تدبير الدعم إلى لجان تشرف عليها السلطات المحلية..”
هذه الفقرة، التي تشكّل جوهر التوجيه الملكي، تختزل تحوّلاً في فلسفة التدبير العمومي؛ فالمصطلحان البارزان “بكل مهنية” و”وفقاً لمعايير موضوعية” ليسا مجرد توصيفات بل يمثلان شرطين مؤسسين لنمط جديد من الحكامة في تدبير ملف حساس مثل القطيع الوطني. فـ”المهنية” هنا تُفهم باعتبارها التزاماً بكفاءة التنفيذ، وصرامة في الإجراءات، وتحييداً لأي تأثيرات غير تقنية في عملية التتبع، خصوصًا في مجال ظلّ لفترة طويلة عرضة للارتجال أو التسييس.
أما “المعايير الموضوعية”، فهي دعوة صريحة لتجريد العملية من أي منطق انتقائي أو شخصاني، ولضمان توزيع عادل للدعم، وفق مؤشرات واضحة يمكن قياسها وتتبعها ومراقبتها. فالموضوعية تقطع مع الزبونية وتُخضع العملية لمنطق شفاف يمكن تقييمه، وهي رسالة مباشرة للمسؤولين: لا مكان بعد اليوم للقرارات الاعتباطية أو التدخلات غير المؤطرة بالمعطى التقني المحض.
هذا التحول في الجهة المكلفة بتتبع إعادة تكوين القطيع ليس مجرد تفصيل إداري، بل يحمل دلالات مؤسساتية عميقة. فوزارة الداخلية، بحكم انتشارها الترابي وصلاحياتها التنفيذية، تحوّلت إلى الذراع الفعّالة لضمان تنفيذ السياسات ذات الطابع السيادي، وعلى رأسها الأمن الغذائي، الذي بات يُنظر إليه في المغرب كأحد أركان الأمن الوطني الشامل، وليس مجرد ملف فلاحي أو اقتصادي.
ويعكس هذا الاختيار كذلك تراجع الثقة في نجاعة المقاربة التي قادتها وزارة الفلاحة خلال الفترة الماضية، خاصة في ما يتعلق بعملية استيراد الأغنام لسد الخصاص، والتي أفرزت موجة من الجدل السياسي والإعلامي، وطرحت علامات استفهام كبرى حول الحكامة، الشفافية، ومآل الدعم العمومي.
لا يمكن إذن عزل هذا التوجيه الملكي عن سياق سياسي واجتماعي تميز بنقاش محتدم حول ما وُصف بتبديد “أموال دعم القطيع”، وغياب رؤية مندمجة لدى بعض المتدخلين الحكوميين. فقد تسبب هذا الملف في إحراج كبير داخل البرلمان، وانعكس بشكل مباشر على صورة الحكومة في الشارع، بل وأثار تباينات حتى بين مكوناتها، في وقت كان المنتظر هو التنسيق وتكامل الأدوار.
وفي ظل هذا الوضع، يبدو أن التوجيه الملكي الأخير يسعى إلى إخراج الملف من منطق التجاذبات والصراعات السياسية، وإعادته إلى سكته الأصلية كقضية تهم السيادة الغذائية للمملكة، وتتطلب انضباطًا مؤسساتيًا وفعالية تنفيذية لا تقبل التردد أو التراخي.
لقد أكد البلاغ الملكي أن ملف القطيع الوطني تجاوز كونه أزمة ظرفية إلى كونه ورشًا استراتيجيًا يمس جوهر العلاقة بين الدولة والمواطن، من خلال تأمين الحاجات الأساسية والرمزية في آن واحد. فالقطيع ليس مجرد رقم في ميزان العرض والطلب، بل ركيزة في معادلة الأمن الغذائي، ومرآة للأمان الروحي، وتجسيد للكرامة الاجتماعية في أدق تفاصيلها.
وما أحوجنا اليوم، في هذا السياق، إلى مسؤولين يستحضرون في كل مهامهم قيم المهنية والموضوعية، ويجعلون من الكفاءة والنزاهة مرجعيتهم الوحيدة في تنفيذ السياسات العمومية، بعيداً عن منطق الحسابات السياسوية أو المحاباة الحزبية الضيقة.